غابت 17 عاما وأعادها المسرح بشخصيات تاريخيةالقاهرة - أمل زيادة :بريق الشهرة والأضواء رئة يتنفس بها الفنانون، لذا يضحون بالكثير بل يقاتلون من أجل البقاء في هذه الدائرة، حيث المال وحب الجمهور وتهافت عليه القوم عليهم، وعندما يقرر البعض، خصوصا الفنانات الابتعاد والتضحية بكل هذا، سواء بسبب ارتداء الحجاب أو الاحتجاب طواعية أو رغما عنهن، فلا بد أن تكون هناك قصة تستحق أن تروى، لذلك تفتح "السياسة" ملف "فنانات بين الحجاب والاحتجاب"، عن بعض من ضحين بالأضواء والشهرة لأسباب عدة، حتى إن عادت بعضهن.* اتهموها بتقليد نيللي فتحولت إلى اسطورة التمثيل والغناء والاستعراض * أسرة والدها رفضت الاعتراف بنسبها ولم تحسم قضيتها إلا بعد بلوغها 16 عاما* أبعدها المرض عن الفن وأعادتها ثورة يناير إلى الميدان والجمهور* قاست لوعة الفراق بفقدانها شقيقها ووالدتها وهزت الآلام عرشها لم تحترف الفن كدراسة بل بالوارثة، فهي أخت الفنان والموسيقار عمر خورشيد، تربت في بيئة فنية، ساعدها أخوها على تنمية موهبتها بعد أن كان رافضا في البداية دخولها المجال الفني خوفاً من أن يقف حبها للفن والتمثيل في طريق تحصيلها العلمي. عاهدته على الالتزام والتوازن بين ما تحب وبين العلم، ونجحت بشكل كبير في ذلك وواصلت تعليمها حتى بعد رحيله لتنال ليسانس الحقوق، ساعدها احتكاك اخيها بكبار الفنانين والملحنين ورموز الفن والموسيقى على تنمية موهبتها بشكل كبير، فما إن وضعت قدمها على الطريق حتى انطلقت كالصاروخ في سماء الفن لتصبح من أهم وأبرز نجوم القمة، حتى بات اسمها علامة مسجلة، كل الوجوه الجديدة يضعنها كالحلم أمامهن، فهي الفنانة الأسطورة الشاملة، تمثل وتغني وترقص، ولكن بينما هي في قمة مجدها إذا بها تغيب عن الأضواء وتحتجب سنوات ثم تعود لتغيب مرة أخرى لتعود مجددا يسبقها شوق الجمهور لها"."قطة على نار"إنها الفنانة الاستعراضية شريهان التي ولدت في 6 ديسمبر 1964، نشأت في بيت فني، خلبت الألباب برقصها وهي طفلة في عيد ميلاد أخيها عمر خورشيد، حيث رقصت أمام قامات الفن العربي، عبدالحليم حافظ الذي أهداها سلسلة بها خرزة زرقاء وفريد الأطرش الذي سارع بإرسال سلسلة بها عين زرقاء في اليوم التالي، بعد أن رقصت أمامهما على نغمات أخيها عازف الغيتار الشهير، ما جعل الكثير من الحضور يطالبوه بضرورة دخولها عالم الفن وتنبأوا بأن يكون لها شأن كبير، لكن خورشيد عارض دخولها الوسط الفني خوفاً من أن يؤثر ذلك على دراستها، مما أحزن شريهان التي كانت تحلم بأن تقف أمام الكاميرا، حاولت معه كثيرا ليوافق على عملها بالتمثيل، إلا أنه ظل معارضاً ورافضاً، فوعدته بأنها ستهتم بدراستها ولن تهمل فيها، فأخذ يدعمها ولا يبخل عليها بأي شيء.درست شريهان الرقص التعبيري، ثم شاركت العام 1970 في فيلم "ربع دستة أشرار" أمام فؤاد المهندس وشويكار وكان عمرها لم يتجاوز السبع سنوات، وما إن لفتت الأنظار إليها حتى بدأ المخرجون والمنتجون يطلبونها، فخاف عليها شقيقها أن يأخذها التمثيل من الدراسة، فانقطعت سنوات لتعود في العام 1977 مع فيلم "قطة على نار" أمام نور الشريف وبوسي. وفي العام 1983 أنتجت لها والدتها فيلم "الخبز المر" من إخراج أشرف فهمي، لتنطلق بعده كالصاروخ فتقدم 24 فيلما من أهمها " العذراء والشعر الأبيض، قفص الحريم، خللي بالك من عقلك، كش ملك، العشق والدم، الطوق والإسورة، عرق البلح".وفي المسرح قدمت شريهان 5 مسرحيات، منها "المهزوز" و"انت حر" مع الفنان محمد صبحي. و"سك على بناتك" و"علشان خاطر عيونك" مع الفنان فؤاد المهندس و"شارع محمد علي" مع فريد شوقي. أما على شاشة التلفزيون، فقد كان لها العديد من الأعمال، حيث شاركت في مجموعة من المسلسلات منها "رحلة هادئة، دعوني أعيش، بطل الدوري، الامتحان، نار ودخان، رحمة، حسن ونعيمة"، علاوة على الفوازير وحلقات "ألف ليلة وليلة" التي قدمتها مع المخرج الراحل فهمي عبدالحميد، فكانت الصانع الأكبر لشهرتها، كما قربتها من الجمهور، حيث نجحت في تقديمها على مدى سنوات عدة.ورغم أن هناك من اتهمها بأنها في بداية تقديمها الفوازير كانت تقلد الفنانة نيللي، إلا أنها سرعان ما أثبتت أنها موهبة مستقلة بذاتها لا تحتاج إلى تقليد أحد. ظلت هذه المقارنة تطاردها سنوات إلا أنها لم تعقب ولم ترد، أكتفت فقط بالاهتمام وتنويع أدوارها وتطوير نفسها كفنانة شاملة، حتى وصلت إلى القمة التي لا ينافسها فيها أحد، بعد أن تحولت إلى اسطورة في التمثيل والاستعراض والغناء.لكن الأسطورة تطاردها المحن فتنقلب حياتها رأسا على عقب، ورغم أنها منذ ولادتها تطاردها المحن، لكن محنة ابتعادها عن الأضواء بسبب الحادث الذي تعرضت له كان الأكثر تأثيرا، وكانت أول محنة تعرضت لها عند مجيئها للحياة، عندما اضطرت والدتها الراحلة عواطف للزواج من المحامي عبدالفتاح الشلقاني أحد أثرياء القاهرة زواجا عرفياً، لا لسبب سوى أن تمنع ابنها الفنان عمر خورشيد من الالتحاق بالخدمة العسكرية بصفته العائل الوحيد لها، وأثمر هذا الزواج عن ميلاد معجزة الاستعراض شريهان، التي دفعت ثمن هذا الزواج العرفي عبر مشوار طويل أمام المحاكم لإثبات نسبها للأب الذي رحل فجأة تاركاً ابنته تواجه مصيرها مع عائلته، التي رفضت الاعتراف بنسب الابنة وشككت فيه طمعاً في ثروة الأب وحتى تحرم الابنة منها، ولم تحسم هذه القضية إلا في العشرين من يونيو عام 1980، عندما كان عمر شريهان 16 سنة.أما المحنة الثانية فتمثلت في فقدانها أخيها الوحيد، الذي خطفه الموت في حادثة سير شهيرة، تردد وقتها أن وراءها مسؤولا كبيرا بسبب غرام ابنته الصغرى به، وكان مع خورشيد في السيارة زوجته اللبنانية والفنانة الراحلة مديحة كامل اللتين شهدتا أن سيارة ظهرت فجأة وطاردت سيارتهم، حسمت لصالح السيارة الغامضة على انقاض دماء الموسيقي الشهير عمر خورشيد. قاست شريهان مرارة الفقد والفراق الدائم لمن تحبه، بعد أن اختبرتها الحياة بلطمة كبيرة جعلتها تعيش الحزن والاكتئاب الشديد، فهذه الصدمة ظلت آثارها عالقة بذهنها لسنوات طويلة، لدرجة أنها كانت تردد دائماً "الحياة من دون عمر ليس لها طعم، فقد كان أخي وأبي وصديقي"، وقبل أن تفيق شريهان من الأزمة فجعت بوفاة والدتها، لتفقد سندها الأول والوحيد في الحياة بعد فقدانها شقيقها عمر، وجاء رحيل أمها وهي في قمة الشهرة، حيث كانت ملء السمع والبصر بعد نجاحها الكبير في تقديم فوازير رمضان في التلفزيون المصري. أما المحنة الأكبر فقد أصابتها في الرابع والعشرين من مايو 1989، عندما كانت على موعد مع القدر، حيث عاشت تفاصيل حادث سير مأسوي، نتيجة انقلاب سيارتها رأساً على عقب عدة مرات، وكاد هذا الحادث أن ينهي حياتها الفنية.
أفضل ممثلةورغم الروايات الكثيرة التي تناولته، وما شابه من ملابسات غامضة والربط بينه وبين بعض الشخصيات المهمة في مصر، حيث أشيع أن الحادث مدبر من قبل جهات سيادية، لأن علاء نجل الرئيس الأسبق مبارك كان يهتم لأمرها وحريصاً على حضور عروض مسرحياتها وحاولوا ابعادها عن طريقه فتم تدبير هذا الحادث لقتلها، وكالعادة لم ينف أي من الطرفين الأمر ليظل الحادث، الذي تعرضت له وكادت أن تفقد حياتها بسببه لغزاً يصعب التكهن بأسبابه أو من وراءه، خرجت شريهان من هذا الحادث بإصابات بالغة في العمود الفقري استدعت سفرها إلى الخارج وبقاءها سنوات طويلة تحت الإشراف الطبي أجرت خلالها عددا كبيرا من الجراحات، لتعود بعدها إلى ممارسة نشاطها الفني بقوة وتحد.لم يكن أحد يتخيل أن تتحدى شريهان كل ما حدث لها وتنجح بقوة إرادتها بعد أن كانت كل الآراء تؤكد عدم عودتها مرة أخرى للوقوف أمام الكاميرا، لدرجة أصابتهم بالدهشة عندما عادت لتقدم مسرحية "شارع محمد علي"، التي قدمت فيها استعراضات عديدة وبذلت مجهودا خارقا لا يمكن لأحد تصديق أن من تقوم بذلك هي شريهان التي أصيبت في عمودها الفقري وخضت لكل هذا العدد من العمليات الجراحية.ظن الجميع أن المآسي ودعتها وأن الحياة ابتسمت لها، ولكن دائماً للقدر حسابات أخرى، ففي اللحظة التي صفق الجميع لفوزها بجائزة "أفضل ممثلة" في مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي في العام 2002، عن دورها في فيلم "العشق والدم"، لمعت العيون بالدموع وهم يسمعون عبارات رسالتها القصيرة التي أرسلتها لتبرر بها اعتذارها عن عدم الحضور لتسلم الجائزة، كلمات ربما كانت بسيطة، إلا أنها كانت شديدة التأثير فيمن سمعها، حيث قالت فيها: "إنني أمر بأزمة صحية تمنعني من الحضور، ولكن كل شكري لكم ولتقديركم للفيلم ولدوري فيه، وأطلب منكم الدعاء"وعلى الرغم من تلك الرسالة التي أوضحت أنها في محنة، إلا أن شريهان لم تفصح وقتها عن طبيعة مرضها ولا حجمه، إلا أن الحقيقة سرعان ما تم الإعلان عنها، حيث اضطرت شريهان لإجراء جراحة في الجانب الأيمن من وجهها بعد استئصال ورم خبيث هدد حياتها، وتمر بعدها برحلة علاج طويلة استمرت على مدى السنوات الأربع الأخيرة وكانت سبباً رئيسياً في ابتعادها عن الفن فترة طويلة، تحاول الوقوف على قدميها مرة أخرى وتكافح بعزيمة لهزيمة المرض وتطل عبر حساباتها الرسمي في "التواصل الاجتماعي" بصور شخصية تبرز شغفها وشوقها للعودة والوقوف أمام الكاميرا وتطمئن متابعيها وعشاق فنها بصور شخصية لها وإطلالات شبابية وكأنها تقول "لازلت عصفورة الشرق الجميلة وفراشة الاستعراض فقط انتظروني، وأنه لازال في العمر بقية بفضل دعمكم وحبكم ودعاءكم الذي لا ينقطع"، فهي فنانة رقيقة كالزهرة وقوية كالصخرة عصية على المحن والشدائد مهما عُظمت.زواج سريفي رحلتها مع الحياة ارتبطت شريهان بزوجها الحالي رجل الأعمال الأردني علاء الخواجة في سرية تامة. أما وراء سرية هذا الزواج، الذي تسبب الإعلان عنه في أزمة كانت حديث الوسط الفني وقتها، فكانت رغبة علاء الخواجة في عدم جرح مشاعر زوجته الفنانة إسعاد يونس، التي ثارت ثائرتها عند معرفتها بالخبر وأعلنت الحرب الشعواء على شريهان في الصحف والمجلات، إلا أن شريهان وزوجها علاء التزما الصمت حتى هدأت رياح الغضب الآتية من الفنانة إسعاد، التي تقبلت الأمر الواقع في النهاية. وأسفر هذا الزواج عن انجاب ابنتيها "لولوة وتالية القرآن"، وعن قصتها مع الإنجاب كشفت شريهان عبر صفحتها في "فيسبوك" في ذكرى مولد ابنتها لولوة في ديسمبر 2008 قائلة "ذهبت إلى الحج ودعوت ربي العزيز القادر وطلبت منه ابن أو ابنة، وأنا أعلم جيداً أن ظروفي وحالتي الصحية لا تسمح أبداً، ولكني كنت أعلم أيضاً بيقيني في الله وأن ليس هناك أمراً أو شيئا كبيراً أو مستحيلاً على ربي ورب العالمين.. وانه ليس على الله بعزيزٍ أن يَستجيب دعائي إن علم فيه الصِّدق، وحسن اليقين به، حتَّى ولو كان في عُرف الناس من المستحيلات؛ فإنَّه سيستجيب لك، حتَّى ولو كان القدَر يجرى على خلاف ذلك ولا يرد القدرَ إلا الدعاء. وفي العام 2009 سألني جميع أطبائي وهم من خمس دول مختلفة، هل تريدين شقيق أو شقيقة لابنتك "لولوة"؟ أم تريدين الاكتفاء بابنتك ويتم اجهاض ما تحملينه في بطنك نظرا لخطورة ذلك عليك؟ رغم أنه كان سؤالا صعبا والإجابة عليه أصعب والمسؤولية كبيرة، لكني قررت الاحتفاظ بالجنين بعد استجابة ربي لدعائي وهديته وعطائه لي، ولم يتزحزح إيماني ويقيني في الله ولو للحظة بأن ربي سيحول محنتي هذه إلى منحة جديدة، قررت ولي في الله يقين يكفيني، عدم الاستماع لقرارات الأطباء وقلبي يملؤه فقط الإيمان بالله وأن ما سيقدره الله ويقضيه فيه الصالح لي حتى وإن لم يكن ظاهره كذلك، وفي مساء 31 يوليو 2009 منحني ربي من بعد المحنة منحة جديدة وعظيمة هي ابنتي "تالية القرآن الكريم".لصوص الأوطانعندما قامت ثورة 25 يناير 2011، فوجئ الكثيرون بالفنانة شريهان بعد سنوات من الاحتجاب، تقف في ميدان التحرير مشاركة المحتجين ومطالبة برحيل نظام مبارك، عندما أيقنت أن مصر تبدأ أول خطوة في ربيع الحرية، عادت لتثبت أنها كفنانة عصية على الانكسار، ليكون هذا المشهد هو أول ظهور لها منذ العام 2002، خرجت للميادين حاملةً وطنيتها، أخذت توزّع الطعام على الثوار، وتكرر ظهورها مرة ثانية في ميدان التحرير أيضا وهي تنادي مع الملايين بسقوط المرشد ومناهضة الإخوان لصوص الأوطان، حيث كانت ترتدي الجينز الأزرق والقميص البسيط وعقصت جدائل شعرها الطويل بشريط خشن بملامحها المتمردة دون مساحيق تزأر لمصرَ وتطلب حريتها مع الثائرين على الطغيان والفاشية.تظاهرت شريهان دون أن تجعل شهرتها ومرضها حائلا دون مشاركتها في المواقف الوطنية، خرجت وهي التي كانت تشعر بأن الشهرة حرمتها من الخروج والاختلاط بالناس، لكنها بنزولها ميدان التحرير جمعت بين الشهرة والحرية.كوكو شانيل ولم تكتف فقط بالظهور كمواطنة بين المحتجين بل أنها وبعد 17 عاما من الاحتجاب عادت لتقف على خشبة المسرح حيث قدمت مسرحية "كوكو شانيل" من تأليف مدحت العدل وإخراج هادي الباجوري، وتم تنفيذها بمقاييس عالمية لا تقل عن المستوى الذي يقدم في "برودواي"، وفقا لكلام المنتج محمد العدل الذي أكد أن الجمهور سينبهر عند مشاهدتها. وكانت شريهان تعاقدت في نوفمبر 2016 على العودة للتمثيل بـ 13 مسرحية كلها تحمل أسماء لامعة في التاريخ، وقد تم تصوير واحدة ويتبقى 12 مسرحية من بينها "حتشبسوت، رابعة العدوية، شجرة الدر، أنديرا غاندي، إيفا بيرون". بين الشهرة والنجومية والاحتجاب عاشت شريهان حياتها، ذاقت طعم الشهرة ولكنها عاشت في محن لم يعشها غيرها، لمعت لسنوات واحتجبت سنوات أخرى، لكن إيمانها بالله لم يتزعزع حتى وهي بعيدة عن جمهورها وسط طوفان معاناتها.
