شعرية الأشياء في "شغف الأزرق" لأفراح الصباح

عشرون قصيدة ترصد ما يعتمل في المشاعر من حلم وفَقْد

مدحت علام

بداية… يجب التأكيد على أن الشاعرة أفراح مبارك الصباح… لا تتعاطى مع الشعر من منظوره التقليدي، بقدر ما تتعاطى معه من متكئه الإنساني، الذي يتفاعل مع الأشياء بقدر كبير من الصدق والشفافيّة.
وقبل الولوج في متن ديوانها الجديد " شغف أزرق"، سنعرج بعض الشيء إلى قصائدها المنشورة سابقاً، خصوصاً في ديوانها "صندوق" - الذي صدر تقريباً عام 212م - وما تضمنه من قصائد نرى أنها ذات مدخل حداثي جديد، والذي جاء في بنية شعرية متقنة، مكمّلاً لديوانها الأول "عويل لصمتٍ لا يسمع".
كما أن ما نشرته شاعرتنا قبل وبعد دخولها مجال إصدار الدواوين الشعرية، يشي بالكثير من الفسحة النفسية، التي منحتها الشاعرة لنفسها، والتي تنقل من خلالها ما يجول في مشاعرها من أفكار وتحولات وحالات، وهذا الأمر في حقيقته، رؤى جمالية، تتعامل معها الشاعرة بقدر كبير من الإخلاص في النقل والاستشراف، والتفاعل مع الموجودات التي تحيط بنا.
ونذكر بكثير من الشغف ما تضمنه ديوانها "صندوق"، لنقرأ فيه سردية شعرية، ستجعلنا نتوقف عند "عروس بنيد القار"، التي جاء ذكرها في نصين، وسنلاحظ أنه بعد أحد عشر عاماً يأتي ذكر "عروس بنيد القار" في الديوان الجديد بنص ثالث، كي يتأكد لنا أن هذا الأمر محفور في وجدان ومشاعر وكيان شاعرتنا.
وفي هذا السياق الذي نستشرف فيه الفَقْد والرحيل، يأتي الشعر مزدحماً بمشاعر يحتويها الدفء من كل اتجاه، فالشاعرة، تتحدث في مرثيتها، عن الأم التي فقدتها، ولا تزال ذكرياتها طازجة في ذهنها، وهو من أصعب الفَقْد وأكثره ألماً وحزناً، على الإنسان العادي فما أدراك لو كان ذلك مع شاعرة!
ولو تأملنا قصائد ديوانيها السابقين، وقصائدها المنشورة في الجرائد، سوف نعرف أن هناك اختفاء أو انزواء للذات في مقابل الاحتفاء بالحياة ببهجتها وآلامها، وهو احتفاء يدخل في نسيجه الناس بشكل عام، بمعنى أن الشاعرة تتحدث عن الأشياء أكثر مما تتحدث عن ذاتها، وإن جاء ذكر ذاتها فإنه يأتي في صيغة إنسانية تتحرك في اتجاهات عدة.
نعود إلى ديوان "شغف أزرق"، الذي صدر حديثاً عن دار فراشة للنشر والتوزيع في الكويت، سنجد أن ثمة رؤى فلسفية قد طرأت على قصائد الديوان، وأن الرمزية فيها قد ازدادت وضحواً ونضجاً.
والديوان - الذي امتزجت بكلماته الشعرية اللوحات التشكيلية بريشة الفنانة ديمة الغنيم، وتصميم الغلاف لحيدر المعاتيق - يكاد لا يتوقّف عن بوحه، ومشاكسته للواقع والخيال معاً، من أجل الوصول إلى حالة من الوله بالجمال.
ومن العنوان " تأتي الفكرة، التي اتخذت من الزرقة مرفأ ومتكأ، تلك الزرق التي تعبر عن البحر والسماء والصفاء الذهني، والنقاء الروحي، فالأزرق لون الراحة والانسجام والعنفوان، وهو نقيض الأسود والرمادي، ورديف الأبيض، في انسجامه وقربه من النفس.
فيما اتسم الإهداء بتكثيف… لخّص كل ما يمكن أن يقوله الشعر للروح: "إلى روح تكتبني شعراً"، هذه الروح التقت بها الشاعرة فامتزجت بها شعراً وإبداعاً، وتواصلاً مع مفردات شعرية منتقاة من ملامح التجربة ومنابع النقاء.
كما تتواصل الشاعرة مع الفسحة الفلسفية، خلال قصائد الديوان، في منظومة حسيّة تعزف على أوتار المشاعر، للاستماع إلى أغان حياتية، تلك التي تتوهج حضوراً وانسجاماً، ورغم ما يتبدى في بعض قصائد الديوان من جنوح إلى الحزن والإحساس الشديد بالفّقْد، إلا أن الأمل هو الحالة التي يمكننا رصدها، والوقوف عند مفاصلها، ورؤاها: آهات وضحكات لم تجد لها كراسي بذلك المقهى../‏ جزء مني يستميل عقلي/‏ والآخر يقنع قلبي/‏ وأنا… الكون الأوحد الخالي من الحياة".
وهنا يبزغ الأمل جليّا: أيها الـ"أنت"/‏ أيها الآتي من قرب بعيد/‏ ومن كتاب شهي لم أقرأه/‏ كفاك دنواً/‏ لقد أتعبت ولهي!
وفي نص "هوى كان" ثمة تساؤلات، وسبر أغوار للحلم، وحكايات، تتأملها الشاعرة، وتكشف ما تتضمنه من مشاعر، فيما اتسم نص "غرائبية حُسْن"، بالصور الشعرية المنتقاة من الخيال: "على جدران النسيان تتصدع براعم الذكرى"، "أستنشق الأقمار والبحار"، "خواتم من جبال"، وتستكمل الشاعرة صورها الشعرية المعبرة عن خصوبة الخيال في بقية نصوص الديوان: اكتفيت بالقليل القابل للحياة/‏ فداهمني الكثير القاتل للحب"، "أرتّب يومي على مقياس سعادتك"، "أرمي أثقال لقائنا في بحيرة المستحيل"، "كراسي المقاهي اغتصبت الصخب"، "خيالات على فنجان غاضب".
عشرون قصيدة، احتواها الديون، والشاعرة الشيخة أفراح مبارك الصباح، على شواطئ الحياة ترصد مشاعر تتوهج فيها الروح.