على مر الأزمنة، تأتي حضارات وتنتهي، لتحل محلها حضارات أخرى، وكم من حضارات زالت ولم يعد لها وجود، وزالت معها اسماؤها وشعوبها، وقد تناول القرآن بعض هذه الحضارات ولولاه لما عرف الكثيرون عنها شيئا، يقول تبارك وتعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص 58]. وفي هذه الحلقات اليومية تتناول " السياسة " قصص هذه الحضارات والشعوب التي ذكرها القرآن في آياته الخالدة."قالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِن تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا " الكهف.كل من يقرأ سورة الكهف كدأب المؤمنين يوم الجمعة، يجد نفسه أمام مقارنة بين من يؤمن ويعتز بالله ويجعله أمامه في كل وقت، وبين من ينسيه سلطان الدنيا والمال أن يرجع ويسلم إلى الله ويتملكه الغرور أثما وجهلا، ففي هذه القصة عظة وعبرة، لمن تجري به الحياة وتنسيه أن الله هو المانح المانع وهو وحده من يملك مفاتيح الرزق والثراء.أتى أمر الله إلى سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم- أن يشرح لقومه شأن الكفار الأغنياء مع المؤمنين الفقراء بهذا المثل الذي وقع سلفا بين رجلين، أحدهما كافر غني، والثانى فقير مؤمن، حيث كان للكافر حديقتان من أعناب، نضر ثمرهما ومحاطتان بالنخيل زينة وفائدة، يجري بينهما نهر، وإضافة إلى النعم السابقة كانت لصاحب الجنتين أموال مثمرة، لكن نفسه كانت مريضة إذ دخله الزهو، فبينما كان يناقش صاحبه المؤمن الفقير، قال له في غرور: أنا أكثر منك مالا وأقوى عشيرة ونصيرا.
ولم يكتف بذلك بل اصطحب صاحبه مزهوا إلى إحدى جنتيه وزاد قائلا:ما أظن أن تفنى هذه الجنة أبدا، وما أظن أن القيامة حاصلة كما تدعي، وإن فرض ووقعت ورجعت إلى ربي لأجدن خيرا من هذه الجنة عاقبة لي،لأنني أهل للنعيم في كل حال.كما ورد في كتاب الله " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا" الكهف(36،35). لقد جهل الكافر الضال بغروره أنه لن يشفع له في الآخرة سوى إيمانه وعمله الصالح، دفع ذلك صاحبه المؤمن أن يجبيه قائلا: أتسوغ لنفسك أن تكفر بالله الذي خلق أصلك سيدنا آدم -عليه السلام- من تراب ثم من نطفة ثم صورك رجلا كاملا، فلا يدفعك اعتزازك بمالك وعشيرتك أن تهمل ذكر ربك وأصلك الذي هو من الطين، وإنني أعبد خالق هذا العالم وحده ولا أشرك معه أحدا، والجدير بك أن تقول عند دخول جنتك ما شاء الله ولا قوة لي على تحصيل هذه النعم إلا بمعونة الله، فيكون شكرك كفيلا بدوام نعمتك، وإن كنت تراني أقل منك مالا وولدا ونصيرا فلعل ربي يعطيني خيرا من جنتك في الدنيا والآخرة، ويرسل على جنتك قدرا كصواعق من السماء فتزول نعمتك.هكذا نصح المؤمن الفقير، الغني الكافر وحذره من عاقبة غروره واطمئنانه إلى رسوخ النعمة في الدنيا رغم عدم شكر مرسلها، ولكن لم تلق النصيحة صدى، فجاء عقاب الله عاجلا غير أجل وأحاطت المهلكات بثمار جنته وأبادت ثمارها.أصابت الحسرة صاحب الجنة البائدة وتمنى لو لم يكن أشرك بالله، وعند هذه المحنة لم تكن له عشيرة تنصره من دون الله كما كان يعتز، وما كان بقادر أمام قدر الله وعقابه على نصرة نفسه، فالنصرة ثابتة في كل الأحوال، لله الحق وحده، وهو سبحانه خير لعبده المؤمن يجزل له الثواب ويحسن له العاقبة.