الأربعاء 18 يونيو 2025
36°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الأخيرة

ضاعت المراجل بنقض العهود والمواثيق

Time
الأربعاء 16 ديسمبر 2020
View
5
السياسة
محمد الفوزان

يعتبر الوفاء من أخلاق العرب الأصيلة، فالرجل منهم كان ينطق بالكلمة فتصبح عهداً عليه أن يفي به وإلا عرّض شرفه للتجريح، وكان الغدر معرة يتجافون عنها، وإذا ما غدر أحدهم رفعوا له لواءً بسوق عكاظ ليشهروا به.
وخير نموذج لذلك ما فعله عبد الله بن جُدعان في حرب الفِجَار التي دارت بين كنانة وهوازن، إذ جاء حرب بن أمية إليه وقال له:" احتبس قبلك سلاح هوازن"، فقال له عبدالله:" أبالغدر تأمرني يا حرب، والله لو أعلم أنه لا يبقى منها إلا سيف، إلا ضُربت به، ولا رمح إلا طُعنت به ما أمسكت منها شيئاً"؟
وكان من وفائه أن العرب إذا قَدِمت عكاظاً دفعت أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان، حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم، ثم يردها عليهم.
قصص الوفاء فريدة عند أهل الجاهلية، وممن ضُرب بوفائه المثل: عمير بن سلمى الحنفي، إذ استجار به رجل من بني عامر بن كلاب، وكانت معه امرأة جميلة، فرآها قرين بن سلمى، أخو عمير، وصار يتحدث إليها، فنهاها زوجها بعد أن علم فانتهت فلما رأى قرين ذلك وثب على زوجها فقتله، وعمير غائب، فأتى أخو المقتول قبر سلمى وعاذ به، فلما قدم عمير أخذ أخاه وأبى إلا قتله أو أن يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ الدية ولو ضوعفت، فأخذ عندئذ عمير أخاه وقتله لغدره وفاءً لجاره ، وما معركة ذي قار الشهيرة بين العرب والفرس إلاّ بسبب التزام هانئ بن مسعود بالعهد والوفاء به، وعدم تسليم كسرى الأمانات التي أودعها لديه النعمان ابن المنذر .
عندما جاء الإسلام رعى هذه الخصلة، فحفظ العهود وأداء الذمم والأمانات بعامة، سواء أكانت للأصدقاء أوللأعداء، وذلك استجابة لأوامر ربهم وتأسياً بسيرة نبيهم( صلى الله عليه وسلم) الذي قال:" آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"(متفق عليه).
وقد نوه القرآن الكريم بسمو فضيلة الوفاء حين جعلها صفة للأنبياء، فقال تعالى:"وإبرَاهِيمَ الَذِي وفَّى"(النجم: 37)، وذلك أن إبراهيم، عليه السلام، بذل غاية جهده في كل ما طُولب به من ربه، فبذل ماله في طاعته، وقدم ولده إسماعيل قرباناً لله حتى فداه ربه، واحتمل الابتلاء في الاحتراق بالنار في سبيل الله حتى جعلها الله برداً وسلاماً عليه، وأشار القرآن الكريم إلى وفاء إسماعيل، عليه السلام، بقوله:" واذكُر فِي الكِتَابِ إسمَاعِيلَ إنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعدِ وكَانَ رَسُولاً نَّبِياً".
ومن أمثلة وفائه، عليه الصلاة والسلام،موقفه يوم الفتح من عثمان بن طلحة حاجب الكعبة في الجاهلية، عندما طلب منه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية فقال، صلى الله عليه وسلم:"أين عثمان"؟
فدُعي له فقال:"هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء".
وبعد صلح الحديبية عندما جاء أبو بصير هارباً من مكة، وجاء رجلان من قومه يطلبان رده، فأبى النبي إلا أن ينفذ شروط الصلح، ولما تألم أبو بصير من ذلك حتى لا يرجع إلى المشركين فيفتن عن دينه، قال الرسول:" يا أبا بصير إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت من العهد، ولا يصلح في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً"، وقد حقق الله تعالى ظن رسوله، إذ وجد لهؤلاء المستضعفين الفرج والمخرج كما هو معروف في كتب السيرة.
وصار موكب الصحبة الطاهر على هدي هذه الأخلاق الوفية، يضحون بالغالي والنفيس، امتثالاً لأوامر ربهم، وأسوة بوفاء نبيه، واتبعتهم في ذلك الأجيال المؤمنة على مر العصور، قال تعالى:" وأَوفُوا بِعَهدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُم ولا تَنقُضُوا الأَيمَانَ بَعدَ تَوكِيدِهَا وقَد جَعَلتُمُ اللَّهَ عَلَيكُم كَفِيلاً".
ولعل أجمع الآيات القرآنية لأنواع الوفاء قوله تبارك وتعالى في سورة المائدة:" يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُودِ"، ولذلك قال رشيد رضا:" إن أساس العقود الثابت في الإسلام هو هذه الجملة البليغة المختصرة المفيدة: أَوفُوا بِالعُقُودِ، لأنها تفيد أنه يجب على كل مسلم أن يفي بما عقده وارتبط به ما لم يتضمن تحريم حلال أو تحليل حرام".

إمام وخطيب
[email protected]
آخر الأخبار