محمد الفوزانيقول الله تعالى: "وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ"(سورة البقرة:155- 157).قال الأوزاعي عن عبد الله بن محمد قال:" خرجت إلى ساحل البحر مرابطاً وكان رباطُنا يومئذ بعريش مصر، فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا ببَطِيحَة، وفي البَطِيحَة خيمةٌ فيها رجل قد ذهبت يداه ورجلاه، وثقل سمعه وبصره، وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه، وهو يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً".قال الأوزاعي: "قال عبد الله: قلت: والله لآتينّ هذا الرجل ولأسألنّه أنى له هذا الكلام؟ فِهمٌ أم عِلم أم إلهام أُلهمه؟ فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت: سمعتك تقول واعاد كما كان يقوله الرجل. اضفت: فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها؟ وأي فضيلة تفضل بها عليك تشكره عليها"؟ قال: "وما ترى ما صنع ربي، والله لو أرسل السماء عليَّ ناراً فأحرقتني، وأمر الجبال فدمَّرتني، وأمر البحار فغرَّقتني، وأمر الأرض فبلعتني ما ازددت لربي إلا شكراً؛ لما أنعم عليَّ من لساني هذا، لكن يا عبد الله إذا أتيتني لي إليك حاجة قد تراني على أي حالة أنا، اذ لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع، لقد كان معي بُنَيٌّ لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضيني، وإذا جعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فَتَحَسَّسْهُ لي رحمك الله".فقلت: "والله ما مشى خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجراً ممن يمشي في حاجة مثلك".فمضيت في طلب الغلام، فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبُع، فاسترجعت: قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، وقلت: إنى لي وجهٌ رقيقٌ آتى به الرجل، فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي عليه السلام، فلما أتيته سلمت عليه فرد عليَّ السلام فقال: ألست بصاحبي؟قلت: بلى. قال: ما فعلت في حاجتي؟فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب عليه السلام؟ قال: بل أيوب.قلت: هل علمت ما صنع به ربه أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟قال: بلى.قلت: فكيف وجده.قال: وجده صابراً شاكراً حامداً. قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبُع، فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر.فقال المبتَلَى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقاً يعصيه فيعذبه بالنار.ثم استرجع وشهق شهقة فمات.فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، عظمت مصيبتيْ رجل مثل هذا؛ إن تركته أكلته السباع، وإن قعدت لم أقدر على ضر ولا نفع، فسجَّيته بشَمْلَةٍ كانت عليه، وقعدت عند رأسه باكياً، فبينما أنا قاعد إذ تهجَّم عليَّ أربعة رجال فقالوا: يا عبد الله ما حالك وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته.فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه.فكشفت عن وجهه، فانكب القوم عليه يقبلون عينيه ويقولون: بأبي عينٌ طالما غضَّت عن محارم الله، وبأبي جسمه طالما كنت ساجداً والناس نيام. فقلت: من هذا يرحمكم الله؟فقالوا: هذا أبو قِلابة الجِرْمي صاحب ابن عباس، لقد كان شديد الحب لله وللنبي صلى الله عليه وسلم.فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا وصلينا عليه ودفناه، فانصرف القوم وانصرفت إلى رباطي، فلما جن عليَّ الليل وضعت رأسي فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة وعليه حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي:" سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ".فقلت:ألست بصاحبي؟قال: بلىقلت: أنى لك هذا؟ قال: إن لله درجات لا تُنال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء مع خشية الله عز و جل في السر والعلانية". ( انتهى)في ظل ما يصيبنا في حياتنا من ابتلاء، أو نسمعه عن إخواننا، نستفيد من قصص الصبر بفوائد عظيمة أهمها: أن عاقبة الصبر عاقبة حسنة، حتى صار أيوب عليه السلام أسوة حسنة لمن ابتلي بأنواع البلاء.ثانيًا: أن من امتحن في الدنيا بمحنة، فتلقاها بجميل الصبر، وجزيل الحمد رجي له كشفها في الدنيا مع حسن الجزاء في الآخرة.ثالثاً: الرضا بقدر الله عز وجل والتسليم الكامل بذلك، وهذا من شأنه أن يَعْمُر الأمن والإيمان قلب المؤمن، فيعيش في غاية السعادة؛ وإن تضجر بقدر الله، فإنه يعيش حياة البؤس، والشقاء، وأن اليأس، والبكاء لا يرد شيئاً مما فات.قال الشاعر:"فَدَعْ مَا مَضى واصْبِرْ على حِكِمْةِ الْقَضَا فَلَيْسَ يَنَالُ الْمَرْءُ مَا فَـاتَ بِالْجُهْـدِ".اللهم تجاوز عنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.إمام وخطيب
[email protected]