الأربعاء 30 أبريل 2025
34°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
منوعات

"عندما كنا يتامى"... رواية يبحث مؤلفها إيشيغورو عن لغز اختفاء أبويه عبر سطورها

Time
السبت 28 مايو 2022
View
5
السياسة
صدر حديثا عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر رواية "عندما كنا يتامى" للروائي البريطاني كازو إيشيغورالحاصل على جائزة نوبل للآداب 2017، ترجمة طاهر البربري عن المركز القومى للترجمة.
تمنحنا الرواية شعورا قويا بتعقيد العالم والإنسان، ولكنها تترك فى ذاكرتنا أيضا تعاطفها مع محاولة بطلها هزيمة الشر، ومثابرته فى اكتشاف لغز ماضيه، واعتزازه بهذه الرحلة سواء عبر الذاكرة أو الأماكن، إنها رواية عن المسافة الهائلة بين البدايات والنهايات، وبين الطفولة والنضج.
لا تختلف الرواية كثيرا عن رواياته التى يسردها شخص واحد، والتى تعيد اكتشاف هذا الراوي للعالم وللحياة بأكملها من جديد، بعد تجارب كثيرة معقدة؛ إنها تقريبا اللعبة المدهشة نفسها، شخص استقرت معارفه وأفكاره، عاش حياة طويلة وثرية، ولكن الذاكرة البعيدة تجعله يعيد تعريف تلك المسلمات، ويعيد تأمل كل أفكاره، مؤمنا فى النهاية بأن الحياة أكثر تشابكا وتركيبا، وأنه تعامل مع حياته بتبسيط طفولى تقريبا.
الرواية التى تدور أحداثها على مساحة زمنية تناهز نصف القرن، بطلها مخبر سري شهير يعيش فى لندن فى ثلاثينيات القرن العشرين، اسمه كريستوفر بانكس، وهو يمتلك قدرات ملحوظا فى حل ألغاز الجريمة.
بدافع من هذه الثقة المهنية، يقرر أن يحل لغز حياته الخاصة، فقد ولد وعاش حتى سن العاشرة فى مدينة شنغهاى الصينية فى بدايات القرن العشرين، كان والده يعمل فى مؤسسة بريطانية من أنشطتها استيراد الأفيون، بينما كانت أمه امرأة مسيحية مستقيمة تعارض نشاط زوجها.
وفجأة اختفى الأب، ثم الأم، وأرسل كريستوفر الصغير إلى لندن ليعيش مع خالته، تعلم ثم تخرج وأصبح مخبرا ناجحا، والرواية فى جوهرها ذات بعدين: رحلة بحث بوليسية عن الأب والأم الغائبين بعد سنوات طويلة من اختفائهما.
ولكنها فى البعد الثاني الأعمق هى رحلة اكتشاف كريستوفر للعالم من جديد، ولحاضر متوحش ينسخ ماضى طفولته البريئة، بل إنه يكتشف من خلال رحلة العودة إلى شنغهاى أن الشر المحدود الذى يقاومه بضبط مجرمى بريطانيا، ليس شيئا مقارنة بشر مستوطن فى الصين، حيث عصابات الجريمة، وحيث الجماعات الشيوعية الدموية، ونظام تشانغ كاي تشيك العنيف، وحيث الغزو اليابانى للصين، وإرهاصات عالم مجنون، يتجه بقوة إلى الحرب العالمية الثانية.
"كريستوفر بانكس" تجاوز سن الطفولة، ولكن براءته وتبسيطه للعالم فيهما الكثير من براءة وبساطة "ستيفنز" كبير الخدم فى رواية إيشيغورو الممتازة "بقايا اليوم"، كلاهما أيضا مشدود إلى الماضى، وإلى أفكار راسخة سيثبت أنها غير صحيحة.
ورغم أن كريستوفر أكثر ذكاء وثقافة، فإن انغماسه فى البحث عن والديه، وفى عالمه الخاص، وسط حرب ضارية بين الصينيين واليابانيين، يبدو أمرا عجيبا ومثيرا للسخرية والرثاء، بل إن كريستوفر فى علاقته مع سارة، يذكرنا على نحو ما بعلاقة ستيفنز بالمرأة التى أحبته فى"بقايا اليوم".
كريستوفر يترك سارة، ويرفض فكرة الهروب معها إلى ماكاو، استكمالا لبحثه المتأخر عن والديه، فى حين كانت قد تغيرت، وبدأت فى البحث أخيرا عن الحب.
اكتشافات كريستوفر ستطال كل شىء تقريبا، سر اختفاء الأم والأب، وسر فيليب صديق والده الذى يمتلك مخرن الأسرار، ومصير أكيرا صديق طفولته، سيكتشف أن الشر ماكر وشديد التعقيد، وأن السيناريوهات التى افترضها غير صحيحة.. بل إن تعليمه بأكمله أنفق عليه رجلُ عصابات صينى.
التفاصيل مذهلة، والحبكة مليئة بالمفاجآت؛ مثل أي قصة بوليسية، ولكن الأهم هو أن كريستوفر يفقد فكرته عن الطفولة، ولا يبقى له سوى ذكريات قديمة مندثرة، وجهده فى البحث، وقدره الذى حمله على أن يتصرف كيتيم، يطارد ظلال والديه المختفيين.
إن كازو إيشيغورو يخبرنا بواسطة كرستوفر بانكس أن العدسة المكبرة تتعلق بنا دائماً أكثر مما تخص الآخرين الذين نبحث عنهم، إنها ترتبط بعلاقتنا الملتبسة بالذاكرة، أي بضرورة ترويض الماضي، تعديل الزمن بدفعه لاتخاذ صور أقل حدة، أو للتخلي في شكل كامل عن حقيقته.
نحن بهذه العدسة المكبرة نقود أحلاماً معينة نحو الصدارة، ونستبعد ما نؤمن بأنها كوابيس راسخة، أو نحاول التخفيف من وطأتها. كأننا بالضبط نستخدم "الاختفاء"، وتتبع آثار المفقودين للعثور على أنفسنا في حياة أخرى. أو لو شئنا الدقة كأن هذه العدسة المكبرة هي وسيلة كل منا للهروب مما يجسّده في الرواية أحد سادة الحرب الأقوياء الذي كان يُنقل في الزحام على مقعد متحرك، ويصحبه عملاق يحمل سيفاً، وعندما يشير أحد سادة الحرب هذا إلى أي شخص يريد؛ يتحرك هذا العملاق ويقطع رأسه أو رأسها.
بطريقة ضمنية أيضاً يؤكد كازو إيشيغورو أن التوحد برجل البوليس السري هو نوع من الوفاء للطفولة، لجذبها نحو الامتداد في الحاضر، وبالتالي لتنقيتها، وتحويل خيالاتها من اختلاسات معدومة الحيلة على هامش الواقع إلى أصل مغاير للعالم.
"نحن الأطفال مثل المفصلة التي تحفظ ارتباط الألواح ببعضها، ذات مرة أخبرني بهذا راهب ياباني، غالباً ما نفشل في إدراك هذا، لكن نحن الأطفال لا نوثق عرى الأسرة فقط، بل والعالم كله معاً،لو لم نلعب دورنا، فسوف تسقط الألواح وتتداعى على الأرض".
ربما يعرف كازو إيشيغورو أن المطاردة لا تنتهي أبداً مهما بدا غير ذلك، وأنه في مقابل الألم والكوابيس؛ لا يتحرر اليتيم من التشابه مع الآخرين إلا بحكايته الخاصة والمختلفة التي سيدونها عن آباء دائمي الغياب.
تنتهى الرواية فى العام 1958 بالوصول أخيرا إلى الأم، ولكن بعد أن صار كريستوفر مُتقدما فى السن، لم يعد طفلا، لا من حيث السن ولا التجربة، لديه رصيد من القضايا الجنائية التى يفخر بحل ألغازها الصعبة، ولكن لديه كذلك صدمة هائلة فى الجميع، ذلك أن الإنسان والعالم هما "لغز الألغاز"، الذى لا ولن نعرف له حلا، على مر العصور.
آخر الأخبار