الجمعة 23 مايو 2025
39°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
منوعات

فاطمة رشدي من قمة الشهرة إلى متسولة في شوارع وسط القاهرة

Time
الأحد 05 مايو 2019
View
5
السياسة
"سارة برنار الشرق" وقع في غرامها الكبار

القاهرة – هالة عاصي:

من يقترب من حياة مشاهير الفن، يجدها أكثر درامية ومأساوية من الأعمال الفنية التي قدموها وجسدوا شخصياتها رغم وهج الشهرة والحفلات والثراء الذي تمتعوا به لسنوات طويلة.
في هذه الحلقات تقترب "السياسة "، أكثر من حياة مجموعة من أشهر نجوم الفن، ممن بلغوا قمة النجومية والشهرة وحققوا الملايين، عاشوا حياتهم بالطول والعرض، وأنفقوا ببذخ، لكن النهاية التي كتبها القدر كانت أكثر مأساوية مما نشاهده في الأعمال الدرامية.

* أحبها عزيز عيد فجعلها نجمة وغير دينه كي يتزوجها
* عاشت قصص غرام واعترفت بأنها لم تحب إلا المسرح
* أنفقت ثروتها على "أبو الفنون" ثم أدارت لها الحياة ظهرها
* فريد شوقي انحنى لتقبيل يديها وأصاب من يجهلونها بالذهول
* منحتها الدولة شقة فماتت فيها بعد أيام والجيران جمعوا تكاليف جنازتها


ليل القاهرة، في شارع الجمهورية وسط القاهرة المزدحمة، امرأة مسنة تجلس وحيدة وعلى وجهها علامات الزمن، تستطيع أن تقرأ في ملامحها بقايا جمال أخاذ وعمر مليء بالذكريات والأحداث، من عينيها تقرأ الكثير ويطل شبح ماضي غني زاخر، لكن صمتا يغلفها وحزنا يملأ العيون، التي طالما تغنى بجمالها الشعراء ولا أحد يدري بها، يمرون جانبها ربما يتوقفون لحظة ليعطوها شيئا تعيش به.
من بين هؤلاء الناس كان يتصور أن "المتسولة الحزينة الصامتة" فنانة اهتزت لها خشبة المسرح وانحنت لها قامات كبيرة اعترافا بفنها وجمالها وسحرها؟.. هي حقا فقيرة معدمة لا تجد قوت يومها، لكنها غنية بذكرياتها الحافلة بالنجاح والتألق، من بين هؤلاء ولو حتى من باب الخيال يتصور أنها الفنانة الكبيرة فاطمة رشدي؟!.
لم تكن المراهقة الصغيرة فاطمة تعي أن أشباح الظلام، التي تخيلتها من نافذة القطار وأخافتها، أثناء سفرها مع والدتها وأختيها "رتيبة" و"انصاف" عند انتقالها من الاسكندرية إلى القاهرة، ليست أشد قسوة ممن مروا في رحلتها وتركوا علامات لا تنسى.
تضحك عندما تتذكر قطعة الشيكولاتة الفاخرة التي كانت أول أجر نالته وهي دون العاشرة، أعطاها لها الكاتب والمخرج المسرحي أمين عطا لله ووعدها بأكثر منها إذا غنت بلا خوف واعجبت المتفرجين، ساعتها صعدت الموهبة وغنت "طلعت يا محلا نورها" للفنان سيد درويش، ونجحت وأثبتت حضورا طاغيا وصفق لها الجمهور، وكان بينهم سيد درويش شخصيا الذي أسرع يحتضن الموهبة المشعة أمامه، وقرر ضمها لفرقته.

إنوثة مبكرة
وصلت فاطمة القاهرة لتبدأ رحلة الابداع والتألق والصعود والهبوط رحلة نجومية مبهرة.
في "شارع عماد الدين" حيث الفن والفنانين، تعطى الفرصة لكل من لديه موهبة، وفاطمة رشدي واحدة منهم، فقد تطورت موهبتها بين مسارح عماد الدين الاستعراضية ومسارح روض الفرج، حيث بدأت حياتها في فريق الكورال والانشاد مع سيد درويش ونجيب الريحاني وعملت بعدها في فرقة فؤاد الجزايرلي ومسارح روض الفرج والبسفور.
كان الفضل لاثنين في بدايتها حسبما أكدت في مذكراتها، هما الملحن سيد درويش والكاتب الكبير محمود تيمور، والأخير عرفها على راهب المسرح المخضرم عزيز عيد، وعلى يديه تحولت هذه الفنانة الصغيرة التي تشتعل فنا وموهبة وجمالا تغلفه أنوثة مبكرة طاغية إلى أسطورة فنية حقيقية، منذ أن التقاها رائد المسرح، هذا الرجل الخمسيني، الذي وهب حياته للمسرح وفنونه، كان لقاء مصيريا، رأت فيه بريق المجد والشهرة، ورأى فيها فاتنة قلبه التي امتلكته وأحبها وذاب فيها عشقا، ولأنه أيضا آمن بموهبتها أعطاها كل شئ.
تفاجأ عزيز عيد أن هذه الفنانة بالفطرة والمراهقة المشاغبة تريد أن تؤلف عملا دراميا وهي لا تعرف القراءة والكتابة، لحظتها رأى فيها مزيجا نادرا من الموهبة والنبوغ والإصرار والطموح ونهم المعرفة، فبدأ تعليمها وتثقيفها بأعلى مستوى، فأصبحت تجيد أربع لغات وتتقن اللغة العربية الفصحى، فبدأ نجمها يلمع حتى ملأ ضياؤها سماء مصر، بل العالم العربي كله، ولأنها قدمت كل أعمال سارة برنار النجمة المشهورة حينها، لذا سميت باسمها ونالت شهرتها، وتقديرا لهذه النجومية، أهداها أمير الشعراء أحمد شوقي أربع مسرحيات هي "مجنون ليلى، كليوباترا، أميرة الأندلس، وعلي بك الكبير"، قام بتلحينها الموسيقار محمد عبدالوهاب اعترافا بنبوغها.
كان تحديا كبيرا أن يتزوجها عزيز عيد، ليس فقط لفارق السن، فلم يكن عمرها يتجاوز الخامسة عشر ربيعا، ولكن لكونه قبطيا، ولأن الحب أقوى، أشهر إسلامه وتزوجها، رغم أن صديقه الفنان يوسف وهبي كان له رأي آخر حين قال له "الحب أعمى يا عزيز، يجب أن تفصل بين الحب والفن"، أيضا نجيب الريحاني كان تعليقه ساخرا عندما قال "لكل عجوز بديعة" ويقصد بذلك تجربته المماثلة مع الفنانة المشهورة حينها بديعة مصابني.
في ذلك الوقت استدعت النيابة عزيز عيد بعد زواجه من القاصر فاطمة رشدي وتدخلت شخصيات كبيرة لقيمة وقامة هذا الفنان، ورغم كل هذا الحب الذي حمله عزيز لها، إلا أنها كشفت حقيقة شعورها في مذكراتها عندما قالت "بصراحة لم أحب يوما رجلا، أحببت المسرح، وتزوجت عزيز عيد الغني لأخدم فني والمسرح"، الذي أعطته عشقها الحقيقي وأفنت من أجله كل ما تملك، شبابها ومالها، وعنه قالت "مسرحى لف البلاد العربية في ظل الاستعمار وأيقظنا فيها حب الحرية ليصبحوا مثل مصر، كنا أفضل دعاية لمصر، والثقافة المصرية غزت كل البلاد العربية".
كانت "بطاطا" كما كان يناديها عزيز عيد، إلهة الفن لديه، لا يستطيع أن يغادر محرابها، فتعهد أن يظل راعيا لفنها إلى الأبد رغم الطلاق، وساعدها في تأسيس فرقتها التي حملت اسمها، وقدمت من خلالها مسرحيات ناجحة في زمن قصير، وخرج منها نجوم أثروا الساحة الفنية مثل محمود المليجي.

قصص غرامية

أية امرأة جميلة يحيطها الرجال يطلبون ودها وقربها، لكن مع جمالها ونجوميتها، دارت حولها مئات القصص، منها المليونير الجزائري ايلي الدرعي، الذي تقرب إليها ووضع في حسابها عشرة آلاف جنيه مصري، ليساعدها في استئجار مسرح "دار التمثيل العربي"، وأخذها في جولة أوروبية وأيضا "تونس والجزائر والمغرب"، التي كانت تحت وطأة الاستعمار الفرنسي، وشجعها أن تهجر عزيز عيد وتتعاقد مع غيره رغبة في إبعاده عن حياتها، فألف لها عزيز عيد تهكما عليه رواية "بسلامته بيصطاد"، كذلك قصتها مع الشاب الوطني الجزائري الذي من أجله تركت إيلي الدرعي، بعد أن ذهبت إلى المغرب العربي، حيث عرضت مسرحية "إبراهيم باشا"، وكانت مسرحياتها تخضع لرقابة الداخلية، وكان من أعضاء الفرقة حسين رياض وزينب صدقي، وقدمت أيضا مسرحية " سلاميو" عن قرطاجة القديمة أصل تونس، وكان هناك اعتراض من المخابرات الفرنسية على بعض المسرحيات، لأنها تتضمن مشاهد إثارة وطنية، ولكن اقبال الشعب كان أكبر من أن يستطيعوا توقيفها. وعندما غادرت تونس للجزائر قابلت مدير المخابرات الفرنسية الذي ما أن شاهدها حتى وقع في حبها، لكنها أحبت شابا جزائريا من عائلة كبيرة كان من قادة حركة المقاومة الوطنية، أحبته حتى أنها تخلت عن حب إيلي الدرعي وأبلغته انها لن تأخذ منه مساعدة مادية لفرقتها، وقادت فرقتها ونجحت رغم الصعوبات وعادت إلى القاهرة وبدأت الاعتماد ماديا على نفسها وما كسبته من رحلة تونس والجزائر والمغرب، لكنها ذاقت عذاب الفراق حين أبلغها ضابط المخابرات الفرنسي بمقتل حبيبها بمعرفة السلطات الفرنسية، فلم تملك إلا أن تفر من وجهه حزينة مرتعبة، لا تدري لماذا تركها ولم يوجه لها أي تهمة ولم يقبض عليها، حيث كانت تقوم من خلال حبيبها بمهمة وطنية تجولت من خلالها في المدن العربية بدأت من الاسكندرية ثم بنغازي وطرابلس ثم تونس والجزائر، ثم الرباط وطنجة، إذ أسند لها مهمة توصيل الخطابات، وعن موت حبيبها نقل عنها أنها قالت: "كانت أول صدمة تهد كياني في حياتي"، الغريب أنها تقابلت مرة أخرى مع ضابط المخابرات الفرنسي الوسيم الذي اعترف لها بحبه، كما أبرأ نفسه من دم حبيبها وأنه لا علاقة له بمقتله على يد السلطات، نظرت إليه دون أن تتكلم أو تعلق والتزمت الصمت وغادرت للمغرب لتواصل رحلتها الفنية.
من القصص الغرامية التي عاشتها، قصتها مع الفنان العراقى حقي الشلبي وتوسطها عند الملك فيصل الأول ليكمل دراسته في مصر وإيمانها بموهبته وتبنيها لها، دارت الأقاويل والشائعات بعد جولة فرقتها المسرحية في بيروت والعراق، وبدأت الغيرة تدب في قلب الحبيب العاشق عزيز عيد وكان جموح فاطمة وطموحها الشديد سببا في الانفصال.

"العزيمة"
مع ظهور الراديو وانصراف الناس إليه وتطور السينما من صامتة إلى ناطقة، بدأ الكساد المسرحي، وبدأت فاطمة رشدي تخسر ما كسبته خلال رحلتها، فقامت بحل الفرقة بعد خسائر فادحة، بجانب ما كانت تعانيه من الغيرة والطمع في أفراد الفرقة بسبب نجاحها فانقسمت الفرقة بزعامة زينب صدقي وانفصلت عن الفرقة الأصلية.
قررت فاطمة الاتجاه إلى السينما، وكانت المفاجأة حين عملت عملاقة المسرح اختبارا مبدئيا للسينما فقالوا بأنها لا تصلح، لكنها لم تيأس وخاضت تجربة السينما فقدمت أفلام "العامل، الطريق المستقيم، الطائشة، الجسد، ودعوني أعيش"، لكن قفزتها الحقيقية في السينما جاءت من خلال المخرج كمال سليم، الذي تزوجها بعد أن ارتبطا عاطفيا أثناء تصوير فيلم "العزيمة"، الذي يصنف كواحد من أفضل مئة فيلم مصري وظلت جملتها الشهيرة فيه "سي محمد" تتناقلها الأجيال، ونجح الفيلم نجاحا باهرا، لكنها قاست كثيرا مع زوجها الجديد بل إنها ذاقت نفس الكأس الذي جرعته لعزيز عيد، حيث عانت من نفس الألم حين طلبت منه أن يعطيها بطولات أفلامه، فكان رده القاسى المؤلم "لست عزيز عيد"، المؤلم أيضا أنه كان يتعامل مع عزيز عيد أثناء التصوير بشكل مهين رغم التاريخ الطويل لهذا الفنان المسرحي، فقد اسند إليه دورا سطحيا وظل يلاحقه بتعليقات قاسية أثناء التصوير، فكانت نهاية الحياة بين فاطمة رشدي وكمال سليم، واكتفت بصداقته حتى النهاية.

فنانة محاربة
لم تتخل فاطمة رشدي رغم نجومية السينما عن المسرح، فاستغلت ما جنته من أفلامها في إعادة تأليف فرقة مسرحية جديدة ضمت ماري منيب، أمينة نور الدين، زوزو حمدي الحكيم وفردوس محمد، وقدمت "الفنانة المحاربة" عدة مسرحيات كان أبرزها "سالومي"، لكن مع صعود السينما وخصوصا الأعمال الكوميدية التي تألق فيها نجوم المسرح مثل نجيب الريحاني ويوسف وهبي، ضعف الإقبال على المسارح، وفقدت مرة أخرى أموالها، ولعشقها الكبير للمسرح اتجهت إلى الفرقة القومية بمسرح الدولة، لكنها لم تجد اهتماما يوازي تاريخها فتركتها، وبعد هجر المسرح لها عادت إليه مرة أخرى من خلال المسرح العسكري وقدمت أعمالا كثيرة منها ثلاثية نجيب محفوظ "بين القصرين، قصر الشوق والسكرية"، فاستعادت النجاح، لكن ذلك لم يدم طويلا وتم حل الفرقة.
يدور شريط حياتها أمامها كعمل سينمائي درامي لم تكن تتصور أن تنتهي حياتها بهذه الصورة وأن يدير لها المسرح ظهره بعد هذا العطاء، بدأت الأضواء تبتعد وتتغير الأجواء الفنية ويقال انها لم تعد تنتمي الى هذه التطورات، فأصبح حالها مثل من يموت صاحبه الأصيل، فيموت بعده تدريجيا، بدأ الانحسار والابتعاد وكبر العمر وتفرق الأحباء بعد موت العظماء ممن عاصرتهم، وبقيت وحدها تصارع مرضها ومعاناتها من التدهور المالي والاجتماعي والمعنوي بعد التوهج والنجاح الأسطوري.

آلام ومرض

باب مغلق تقف خلفه الفنانة الكبيرة باكية رافضة التواصل والحديث مكتفية بحزنها وآلامها ومرضها، كانت النهاية أكبر من خيالها والتي توصف بالمأساة الحقيقية، وكان المشهد الأكثر دراميا والأقوى من كل ما قدمته على المسرح وخفقت له القلوب، في فندق متواضع وسط البلد مقر اقامتها، والفنان الراحل فريد شوقي يسارع بتقبيل يديها وسط ذهول الحاضرين، الذين كانوا يجهلون أنها الفنانة الكبيرة التي أبهرت الناس بموهبتها أعواما كثيرة، بعد هذا اللقاء تذكرتها الدولة في عيد الفن بعدما أصابها الزمن بالكثير وأدمى روحها وكبرياءها، جميلة الأمس وحسناء عصرها وفاتنة الفن من كانت خشبة المسرح ترحب بها، لم تجد فستانا ترتديه في حفل تكريمها، أي سخرية من قدرها وأي وجع أحست به هذه الفنانة، وماذا حدث كي تنقلب كروت حظها إلى الأسوأ وتصير بهذا القدر من البؤس والألم، وأثناء تكريمها طلبت من وزير الثقافة أن يوفر لها شقة فاستجاب لها الوزير وحقق لها طلبها وانتقلت إلى الحياة فيها، ولكن لم يمهلها القدر كثيرا وتوفت بعد أيام قليلة، ولم يجد جيرانها لديها تكاليف جنازتها ودفنها، فقاموا بجمع المال بينهم لإنهاء اجراءات الجنازة والدفن.
نهاية حزينة عنوانها من قمة المجد والشهرة والنجاح الباهر الى كل معاني الألم والمرض والانهيار والتسول في شوارع القاهرة، التي شهدت مجدها وعزها وكانت تسافر منها إلى كل بقاع العالم في رحلات استجمام.


القلاقيف
آخر الأخبار