الثلاثاء 01 أكتوبر 2024
33°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
كل الآراء

فلسفة العقل ما بين الذاتِ والحقيقة (1-2)

Time
الخميس 15 يونيو 2023
View
14
السياسة
محمود كرم

في التّوافق الخلاّق ما بين الذات والحقيقة، ثمّة مسافة فكريّة وشعوريّة، يختبر فيها الإنسانُ قدرته على أنْ يكونَ عارفاً بما يريد أنْ يغيّره أو يفعلهُ أو يدركهُ، استناداً على كلّ ما يرتبط بوجودهِ، جماليّاً وفكريّاً ومنطقيّاً.
فالذات المفكّرة في هذا البحث عن الحقيقة، تسعى إلى اثباتِ حضورها تفكيريّاً على قيد السؤال، والحقيقة هيَ الأخرى تبقى في منظور الذات، الأفق المفتوح دائماً على التجربّة في مخاضات السؤال والفهم، ولذلك عادةً ما نرى أنّ الذات والحقيقة في توافقٍ خلاّق لكي ينتصر السؤال في ميدان العقل، ومن أجل أنْ تتمثّل الحقيقة في تخلّقات الذات المفكّرة.
إنسان العقل الحديث في فلسفتهِ الجوهريّة، أصبح يَعي أنّ تفكيره هو في الأصل يعني تحديداً جوهر وجوده، ولذلك يقرَّر أنّ ذاته هيَ مصدر، بحيث لم يعد بحاجةٍ إلى اثباتِ ذاته عبر غيره. وفي كلّ ذلك يبرهنُ على أنّ حريّته في التفكير، إنّما تعني أصلاً أنْ تستقي ذاته حقيقتها، من كونها إنّها تجد التفكير أصل وجودها، وانطلاقاً من هذا، يجد إنسان العقل الفلسفيّ أنّه لا توجد هناك فجوة ما بين الذاتِ والحقيقة، لأنّ الذات المفكّرة في هذه الحالة تعكس ذاتها في مدارج الحقيقة، والحقيقة المُدركة هيَ الأخرى تعكس أصل الذات في وجودها على قيد التفكير. إنّكَ قد تجد ذاتكَ في مرآة الماضي، وقد تجدها في مرآة الحاضر، لكن بالتأكيد ما يشغلكَ تماماً، هو أنْ تعرفَ كيف عليكَ أنْ تجدها في مرآة حقيقتك.
إنّكَ هنا لا يشغلك سوى أنْ تجدها تتمثّل إدراكاً ووعياً في أصل حقيقتك، التي تتطلّع إلى أنْ تكون مُدركة لحقيقتها في أصل تفكيرها وحريّتها، فحقيقتكَ هنا هيَ مصدر ذاتك، وما بينهما أنتَ تعرف أنّ الأفضل لك دائماً. لذلك وأنتَ تخوض تجربتكَ الفكريّة والنّقديّة، وحتى المشاعريّة، ستعرفُ إنّكَ تستطيع أن تحصل على ما يجعلكَ عارفاً بذاتك في جوهر حقيقتك، ومدركاً في الوقت ذاته لحقيقتكَ في تمثّلات ذاتك.
كلّما كنتَ في أفق الذات واعياً ومُدركاً لحقيقتك، كلّما كنتَ في تموّجات الحقيقة متسائلاً ومستنطقاً وساعياً لذاتك، حينها ستذهبُ بعقلكَ بعيداً في ابتكار حريّتكَ التي تدفعكَ إلى أنْ تدركَ ذاتك في الجديد والجريء من الأفكار والتّصورات، والأساليب. هذا الإدراك للذات هو الطريق الملهم لفهم حقيقتكَ، وهيَ تضعكَ متفكّراً ومتفلسفاً في جوهر عقلك، وهذا ما أستطيع أنْ أقول عنه، إنّه رهانكَ الأجمل في مسعاك التوافقيّ ما بين الذات والحقيقة، من حيث تُبقيكَ الحقيقة هنا عارفاً من أنّكَ باحثٌ دائماً عن وجودكَ حكيماً ومتفلسفاً ومتفكّراً في طريقتك وأسلوبك.
وفي هذا المسعى ترى أنّ الطريقَ أمامك شاسعٌ وممتدٌّ، إلاّ أنّكَ في مقابل ذلك ما تستعينَ بقدرتكَ على الاسترشاد بمسافاتكَ الحرَّة في تخلّقات الفهم والوعيّ والتنوّر.
لا يُصاب الإنسان بالعجز، إلاّ حين يبقى عاجزاً في كلّ مرَّةٍ وهوَ يحاولُ أنْ يكونَ نفسه، هذا العجز يدركه تماماً العقل الفلسفيّ، لأنّه عجز عن التفرَّد بالاستقلالية والحرية، ولذلك ما يحاول أنْ يتبنّاه العقل الفلسفيّ في هذا الشأن، هو الدفع بالإنسان إلى أنْ يستدعي حريّته مِن واقع معرفتهِ بحقيقةِ كونهِ إنساناً يملك في الأصل ذاتاً مفكّرة. تسعى في كلّ مرَّةٍ إلى أنْ تبقى على قيد حقيقتها، مدركة للتوافق الخلاّق بينها وبين الحقيقة، كَجوهرٍ فكريّ في الفعل التحرَّريّ من اليقينيّات التقليديّة، ومن بلاهة الإجابات القطعيّة والنهائيّة، ومن استلابات الثقافات الراكدة، وهذا ما جعلَه دائم البحث عن الإنسان الذي فيه، سعياً جادَّاً منه، لإثبات أنّه كلّما كان قريباً من حقيقتهِ في تساؤلات العقل، كلّما كان بعيداً من الوهم والبَلادة.
إنّه في هذه الحالة الإدراكيّة من الفهم والتنوّر يستطيع في كلّ مرَّةٍ أنْ يستدعي جمال حريّته واستقلاليّته، ويجد فيه متعته الفلسفيّة التي تتماثلُ استنطاقاً ووعياً مع تفتّحاته المعرفيّة، وانشغالاته الفكريّة، وتخلّقاته الإبداعيّة.
ثمّة جمال في أكثر الأفكار بُعداً عن ضحالة المفاهيم السَّائدة، لأنّها الأفكار الناطقة بالذات المفكّرة المستقلّة، التي تنسجمُ مع حقيقتها المدركة لانشغالاتها التفكيريّة. إنّه الجمال الذي يتفرَّد بحقيقة كونهِ تجسيداً وضّاءً لحالتهِ في ارتقاء الذات معارج التفكّر والتساؤل، وهو الجمال ذاته الذي يختبر الحقيقة في تجلّيات العقل، ويتلمّسها في تدرَّجات الفهم، ويستعين بها لاحقاً في صناعة الأفكار الملهمة والخلاّقة والمستقلّة.
وفي هذا المخاض من تجلّيات الأفكار وتجاذباتها هنا وهناك، تعرفُ أنّكَ لستَ حرَّاً إلاّ بِالقدر نفسه من الفهم بِذاتك في تساؤلات الحقيقة، فالحريّة هنا تساوي انشغالاتها المستقلّة في ادراك مسؤوليّتها الحقيقيّة، وهيَ تحقّق انتصاراً جميلاً في معركة العقل والسؤال، وكم يتعلّم الإنسان من كلّ ذلك، حيث يستطيع أنْ يكونَ سعيداً ومتوافقاً مع حقيقتهِ في ما يريد أنْ يكتشفهُ جديداً وملهماً ومبدعاً وحرَّاً.
(...يتبع)

كاتب كويتي

[email protected]
آخر الأخبار