قوم "تُبّع" اجتثهم الله بسيل العرم ..."إنهم كانوا مجرمين"

على مر الأزمنة، تأتي حضارات وتنتهي، لتحل محلها حضارات أخرى، وكم من حضارات زالت ولم يعد لها وجود، وزالت معها اسماؤها وشعوبها، وقد تناول القرآن بعض هذه الحضارات ولولاه لما عرف الكثيرون عنها شيئا، يقول تبارك وتعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص 58].
وفي هذه الحلقات اليومية تتناول " السياسة " قصص هذه الحضارات والشعوب التي ذكرها القرآن في آياته الخالدة.


إعداد - نورة حافظ :


"أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين" سورة الدخان (آية 37)
قديما كان أهل اليمن يسمون ملكهم "تبع" شأنهم شأن الفرس يسمون "كسرى" والروم" قيصر "،
وتتفاوت الأقوال حول أصل كلمة "تبع" ، فمن معتبر أنها تعني الظل الذي يتبع الشمس ،ومعنى ذلك أن التبع يسير بغزواته إلى كل مكان تطلع عليه الشمس، وفي المعجم فالتبع جمع تابع ،ولقد ذكر الله قوم تبع في سور "الدخان و ق وسبأ"، وتبع المقصود هو ملك اليمن بما فيها سبأ وحمير وحضرموت ويدعى أسعد أبو كرب الحميري وهو كقومه عربي من قبيلة قحطان ، وكان ملكا قويا تحت سلطته جيش عظيم يخرج به من اليمن يفتح المدائن فتدين له وتنهزم أمامه ، حتى وصل بفتوحاته إلى يثرب.
في يثرب " المدينة المنورة" جمع تبع علماء وأحبار المدينة الذين صدقوه القول والنصح وأخبروه أن نبيا يخرج من بني إسماعيل يولد بمكة اسمه أحمد وأن يثرب ستكون دار هجرته وأنه لا يدركه ،فقال تبع : وما صفته ؟ فوصفوه له ، فعدل تبع عن غزو يثرب قائلا : ما إلى هذا البلد من سبيل وما كان ليكون خرابها على يدي.
أعجب تبع بعلم ورجاحة عقل حبرين من المدينة فترك الكفر واتبع دينهما اليهودية دين موسى عليه السلام، وأمر تبع قبيلتي الأوس والخزرج أن يسكنا المدينة وأن يتبعا رسول الله أحمد حين يظهر وإن لم يدركاه فليتركا وصية باتباعه لأولادهما من بعدهما، انطلق "تبع" بعدها الى اليمن حاملا معه الحبرين لينهل من علمهما ويستوثق من دينه الجديد.
أودع تبع أهل المدينة كتابا به شعر فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر حتى كانت هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فأدوا الشعر إليه وقيل إن محمداً أول ما نزل المدينة نزل فى دار أبي أيوب الأنصاري والذي كان كتاب "تبع" وشعره في حوزته فأداه الى الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه يقول :
شهدت على أحمد أنه رسول
من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره
لكنت وزيرا له وابن عم
وجاهدت بالسيف أعداءه
وفرجت عن صدره كل غمر
حل تبع قاصدا اليمن وفي مروره بمكة المكرمة مكث بها وقتا فجعل ينحر الذبائح ويطعم الناس ويسقيهم العسل ، ويطوف بالبيت حتى رأى في منامه أنه يكسو الكعبة ففعل وأوصى بها أولاده من بعده ، توفي تبع قبل بعث محمد (ص) بنحو 700 سبعمائة عام .
كان تبع ملكا قويا ،أصلح في الأرض أكرم العلماء وانتفع بعلمهم وتواضع لهم ،مات مسلما ومتبعا ملة نبي يظهر في آخر الزمان اسمه أحمد ، لكن أولاده غرتهم الحياة الدنيا فاستخدموا القوة والمجد الذي تركه لهم تبع فى إذلال الناس والبغي والكفر وكانوا مجرمين وتجاهلوا إنذار الله لهم و نصح الأحبار بالعودة الى الطريق السليم ، وأخذ العبرة ممن أهلكهم الله من أقوام قبلهم وكانوا أشد منهم قوة ،فحق عذاب ، "أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين"الدخان(37)، "وأصحاب الأيكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد " ق (14).
ويرجح المفسرون أن هلاكهم كان بسيل العرم الذي سلطه الله عليهم عقب تهدم السدود حتى سد مأرب - أعظم سدود اليمن – فأهلكت البساتين وأبدل الله جنتيهم المثمرتين جنتين ذواتي ثمر مر ، وشجر لا يثمر وشيء من نبق قليل لا غناء فيه ، وذلك جزاء المفسدين، "فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل " سبأ (16).
على الرغم من أن الآيات السابقة تذم قوم تبع وتصفهم بالكفر والإجرام إلا أن هذا الوصف لا ينسحب على الملك الصالح تبع الذي لم تخصه الآيات بذم ، وقال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: لا تسبوا تبعاً إنه كان قد أسلم .