قبل كل سؤال كان يقول لسمو الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد: اعتبرني محامي الشيطان!كتب ـ بسام القصاص:ليس كل مهني أستاذا، ولكن كل عملاق في تخصصه أستاذ، فالأستاذية لها شروط ومواصفات، منها الموهبة، التواضع، الخبرة والعلم، أن تكون معلما ومكتشفا للمواهب، هكذا كان الأستاذ مكرم محمد أحمد، و"كان" هنا لأنه توفي، مات من علمني الصحافة وعلّم أجيالا وأجيالا.مات آخر عمالقة الصحافة في مصر وأحد أعمدة الصحافة العربية الرصينة، الذي بوفاته انقطع نسل الموهبة والأستاذية إلى أن يمن المولى عز وجل علينا بواحد من طينة الأستاذ مكرم.عايشت وعملت وتقربت من الأستاذ العملاق ما يقرب من 35 عاما، بدأت كمراسل صحافي ثم مديرا لمكتب مجلة "المصور" المصرية التي ظل يرأس تحريرها لنحو ربع قرن من الزمان، فلمست وعايشت أستاذيته وإنسانيته، لمست وعايشت غروره الصحافي أمام أنداده، وتواضعه أمام متدربيه وتلاميذه. لمست وعايشت حبه للكويت بصورة كبيرة جدا، وكان دائما يهمس لي بأنه يستريح كثيرا في الكويت، لذا كان أكثر بلد خليجي يحرص على أن يزوره، وكان دائما التشرف بلقاء صاحب السمو الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد منذ أن كان وزيرا للخارجية.وفي إحدى مقابلاته مع سمو الشيخ صباح الأحمد التي تمت داخل مجلس الأمة وخلال الاستراحة، وكان عندما يسأل مكرم سؤالا حساسا يبدأه بمقولة "اعتبرني سموك محامي الشيطان"! ويكمل سؤاله، ورغم حساسية السؤال كان الشيخ صباح رحمة الله عليه كعادته يستمع بالابتسامة ويبدأ في الإجابة. مع العلم بأن المرحوم مكرم كان يكن كل الاحترام والتقدير لسمو الأمير الراحل الشيخ صباح، إذ كان دائما يردد أن سموه صاحب عقلية سياسية وخبرة كبيرة، وأنه كان يستفيد من مناقشاته مع سموه.كما كان الأستاذ مكرم يحرص خلال زيارته للكويت على الالتقاء بسمو الشيخ ناصر المحمد الأحمد الصباح، والسيد محمد جاسم الصقر رئيس غرفة تجارة الكويت حاليا، ورئيس جمعية الصحافيين الأسبق احمد يوسف بهبهاني، والعميد رئيس تحرير "السياسة" احمد الجارالله، والسيد عدنان الراشد الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب.وفي إحدى اجتماعات مجلس التعاون الخليجي والتي كانت مقامة هنا في الكويت في التسعينات، كانت الوفود الإعلامية تقيم في فندق هيلتون (سفير حاليا) في منطقة بنيد القار، وكان الفندق محاطا بالحرس من الداخل وفي الشوارع بالخارج، وكنت احضر مع الأستاذ مكرم جلسات القمة بصفتي مديرا لمكتب مؤسسة دار الهلال ومجلة المصور، وكنا نستقل باصات خاصة من أمام الفندق بعد عملية تفتيش دقيقة، وتسير بنا الباصات إلى قصر بيان (حيث قاعة المؤتمرات) في حراسة الأمن، وفي اليوم التالي ايضا نفس الشيء في الذهاب والاياب، ولكن المفاجأة كانت عند اقترابنا من الفندق لم نجد حراسة ولا رجال أمن ولا أي مظاهر، فعلق الأستاذ مكرم بقوله: "دول كانوا خايفين مننا مش بيحرسونا"!!.. وكان الأستاذ مكرم عند سفره للكويت يحرص على إحضار قرص الجبنة الرومي المعتبرة والذي لا يقل 4 كيلو، بعدما عرف حبي وزوجتي للجبن الرومي، وفي نفس الوقت كان يحرص على أخذ البن من الكويت.الأستاذ مكرم كان شديدا ولطيفا في آن واحد عند التعامل مع الآخرين أيا كان الآخرين، وكان كريما جدا سواء في بيته أو خارجه، (على الرغم من أنه منوفي، نسبة لمحافظة المنوفية بالدلتا والمعروف عن أهلها الحرص)، وانا شخصيا شاهد على كرمه وفن زوجته السيدة راوية في اتقان الطعام الشهي، لذا عندما كان يدعوني لعزومة كنت اختار البيت لأتذوق طعام زوجته الشهي، مع العلم بأن الاستاذ مكرم أكول جدا.وبسبب دخولي منزله مرات كثيرة تصادف أن التقيت بـ "محمد" ذلك الشاب الذي كان يعتمد عليه الأستاذ مكرم في كتابة مقاله على الكمبيوتر، حيث إن مكرم كان لا يجيد استخدام الكمبيوتر، وكان محمد بعد الانتهاء من كتابة مقال الأستاذ يطبعه له ليراجعه ويغير ويبدل، ثم يتابع تغييراته على الشاشة ومحمد ينفذها، إذ كان الأستاذ دقيقا جدا في عمله.ولا يفوتني أن أذكر أن منزل الأستاذ مكرم به حراسة لا تسمح لك بالصعود للأستاذ إلا بعد موافقته، والسبب يعود لتعرضه لمحاولة اغتيال بسبب كتاباته وآرائه، وخصوصا المتطرفين فكريا والذين هاجمهم مكرم بضراوة وكشف خداعهم للناس باسم الدين ما جعلهم يحاولون إسكاته بإطلاق الرصاص عليه، لكن عناية الله كانت أقوى من رصاصهم الغادر. وبعدها وضعت الحراسة على بيته، حتى إن رجل الأمن يصعد معك حتى باب شقته.الآن الأستاذ مكرم مات... أستاذي وأبي الروحي، ولأنني أجهر دائما بأبوته المهنية فعندما ذهبت لمقر "السياسة" بعد مكالمة عميد الصحافة أحمد الجارالله صباح الخميس، كي أجهز صور الأستاذ مكرم التي ستنشر مع ما سيكتب عنه، ودخلت مكتب الزميل حسن عبدالله فقلت له: "أبويا مات"، فرد قائلا: "الباقية في حياتك شد حيلك"، فقلت له: "إنه أبويا الروحي والمهني ومعلمي الأستاذ مكرم محمد أحمد لانه بالفعل كان أبا لكل من تعامل معهم من أبناء جيلي"، لأفاجأ فجر يوم الجمعة بمقال الزميل حمدي رزق يحمل عنواناً "أبويا مات"، إنه حقا الأستاذ مكرم أب لكثير وكثير من أبناء مهنة البحث عن المتاعب.

عميد الصحافة الكويتية أحمد الجارالله خلال احد اللقاءات مع فقيد الصحافة المصرية

سمو الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد لدى استقباله مكرم محمد أحمد بحضور وزير الديوان الأميري

الزميل بسام القصاص مع المرحوم مكرم محمد أحمد
تشييع الراحلأقيمت صلاة الجنازة على المرحوم مكرم محمد أحمد في مسجد آل رشدان بضاحية مدينة نصر بالقاهرة.وحضر تشييع الجثمان مندوب عن رئاسة الجمهورية ووزير الدولة للإعلام أسامة هيكل، ورئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام كرم جبر، ونقيب الصحافيين المصريين ضياء رشوان ولفيف من المسؤولين وكبار الصحافيين والمثقفين في مصر والوطن العربي.وأقيمت صلاة الجنازة في ساحة المسجد وفي الشارع المواجه للمسجد لتجنب الازدحام والأماكن المغلقة احترازا من "كورونا"، وتم دفن الجثمان بمقابر الأسرة في ضاحية مدينة نصر أقيم العزاء بين مبنيي مؤسسة الأهرام الصحافية بوسط مدينة القاهرة وتكفلت مؤسسة الأهرام بالعزاء تقديرا لأن الفقيد يعد ابنا من أبناء الأسرة الصحافية الأهرامية.

الصلاة على جنازة الفقيد في الشارع