كتب – محمود خليل:يحفل التاريخ العربي بالنوادر، التي قلما يوجد مثلها في أمم أخرى، نظرا لما يتمتع به العرب من خفة ظل، حتى أنهم سخروا الشعر في كثير من هذه المواقف فتحولت بها إلى نادرة، "السياسة" طافت عبر تاريخ العرب قديمه وحديثه وقطفت بعض هذه النوادر لتقدمها للقارئ حتى ترسم على ملامحه البسمات.بعد هجرتهم لأفريقيا، استقر بنو مخزوم على طول الساحل الشرقي لها، امتزجوا بالسكان المحليين، صاهروهم، فأخذ الإسلام واللغة العربية ينتشران تدريجياً، فاعتنق كثير من قبائل أفريقيا الإسلام، مثل، قبائل الساهو، العفر، السيدامو، شوا، البيجا، وغيرها. لهذا تكونت للمسلمين مراكز تجارية وسياسية في تلك المنطقة، أسسوا ممالك ودول نشرت الوعي الحضاري والثقافة الإسلامية هناك، منها الدولة المخزومية أو مملكة شوا الإسلامية.ينتمي بنو مخزوم إلى قبيلة كنانة، أحد بطون بني قريش، ينتسبون إلى "بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان"، من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.كانت توكل إليهم الشؤون الحربية في قريش، اشتهر منهم العديد من القادة، منهم، الوليد بن عمارة بن الوليد بن المغيرة، خالد بن الوليد بن المغيرة الملقب بـ "سيف الله المسلول"، كما كانوا أخوال عمر بن الخطاب، كذلك تنتمي فاطمة بنت عمرو المخزومي، جدة النبي محمد، صلى الله علىه وسلم، لأبيه عبدالله بن عبدالمطلب إليهم، يقول رسول الله، صلى الله علىه وسلم، عن ذلك "أنا ابن الفواطم من قريش".
كان بنو مخزوم من المقربين لبني أمية، إذ كان فرسانهم من قادة الجيش الأموي، كما تولوا إمارة مكة، المدينة، الطائف.بعدما سقطت الدولة الأموية وتولى العباسيون، أمر العباسيون جنودمه بمطاردتهم، فطاردوا بني مخزوم، وبني عدي، وبني أمية، في كل الديار الإسلامية، فقتلوا من بني مخزوم ثمانية آلاف رجل، بل أبادوا ذرية بعضهم حتى لم يعد من نسلهم فردا واحدا.تمكن بعضهم من الفرار إلى الجبال، بينما تمكن البعض من الهجرة إلى شرق أفريقيا، بعدما نزلوا في المنطقة، اختلطوا بالأمراء عن طريق المصاهرة، حتى أسسوا مملكة مخزومية سميت بـ "شوا"، استمرت تحكم أربعة قرون، تمتعت خلالها بالأمن والاستقرار، ازدهر بها العمران، كثرت المدن والقرى، منها، "ولِلَّه، هكلة أو هجلة، جداية أو هداية، دجن، أبتا، مورة، حدية أو هدية، الزناتير، المحررة، عَدَل" كما شهدت معارك حربية كبرى بينها وبين مملكة الحبشة الصليبية.اتخذ حكامها لقب "سلطان"، توافد إليها العديد من القبائل، نتيجة لهذا الازدهار، خصوصا أن مملكة الحبشة "أكسوم" المسيحية كانت تعيش اضطرابا سياسيا وعدم استقرار، فلم تتمكن من التصدى للسلطنة الجديدة، أو تمنع قيامها على جزء من هضبة الحبشة، كما ساعد بعد المسافة بين أكسوم وشوا، على عدم وجود أي علاقة بينهما.كما تمتعت "شوا بموقع" حصين، فقد كان يحيط بها جبال وعرة، يحدها نهر تكازى الأعلى يمينا، النيل الأعلى يسارا، مما جعلها تمثل حصنا آمنا يوفر الحماية لسكانها. استغل بنو مخزوم هذا الهدوء في السيطرة الاقتصادية، السياسية، الدينية، على المناطق المجاورة، خاصة المناطق الإسلامية في الشرق منها، مما ساهم في نشرها للإسلام في هذه البلاد التي ضمت إليها بعد إسلام ملوكها وأهليها.كانت "شوا" مثل مثيلاتها من الإمارات والممالك الإسلامية في المنطقة، مزدهرة بالاقتصاد خاصة أنهم تجار في الأساس، فتنوعت مشروعاتها، استوردوا مزروعات جديدة، مثل، "البرتقال، الذرة، الفلفل، الأرز، القرنفل"، كما اهتموا بصناعة المنسوجات التي صدروها بجانب العاج، جوز الهند، إلى العالم الإسلامي، كذلك اهتموا باستخراج الذهب، مما ساهم في ثراء كبير.كان من نتيجة هذا الثراء أيضا، تنوع الطبقات الاجتماعية، فكانت الطبقة الأرستقراطية من العرب، تركزت الشؤون المالية والمصرفية في يد الهنود، ظهرت طبقة خليط من العرب وأهل البلاد الأصليين، ثم كانت طبقة العبيد الذين كانوا يقومون بالأعمال اليدوية في المزارع والمتاجر.تأثرت الثقافة الإسلامية أيضا بهذا الرواج الاقتصادي، فنشأت المدن التجارية على طول ساحل البحر الأحمر، ارتبطت المملكة بصلات وثيقة بالعالم الإسلامي، ما ساهم في نشر الإسلام، فقد أتى مع التجار فقهاء من اليمن، الحجاز، مصر، كان تأثيرهم كبيرا في إذكاء حركات الجهاد، كما وفد إلى الأزهر كثير من الطلاب والعلماء، أنشئ لهم رواق "أهل زيلع" ورواق "الجبرتية"، الذين يعودون إلى بلادهم لنشر مفاهيم وتعاليم الإسلام.