محمد الفوزانذكر العلاّمة ابن كثير، رحمه الله، في كتابه "البداية والنهاية" قصة حدثت في العصر الجاهلي، علق عليها الإمام الأوزاعي، رحمه الله، تعليقاً عظيماً. هذه القصة هي: كان هناك رجل في الجاهلية قبل الإسلام يقال له عامر بن الظرب العدواني، كان كامل العقل، مسموع الكلمة، مطاع حكيم، فالعرب إذا اختلفت يأتون إليه؛ فجاءه مرة ستة أو سبعة رجال وسألوه عن قضية في المواريث، وهي أنهم ابتلوا بشاب خُنثى له آلتان: آلة رجل وآلة امرأة، قالوا: أنت حكيم العرب والناس تأتيك، فهل نعامل هذا على أنه رجل فنعطيه الميراث، أو أنثى فلا نعطيه ميراثاً؟على عادة الجاهليين آن ذاك. فقال:" والله! ما مرت بي مسألة مثلها"، فأخذ يتفكر، وأدخلهم داره فجلسوا في بيته أربعين يوماً، وكان عنده جارية راعية اسمها سخيلة، قد ضاق عامر منها، فقد كانت ترعى الغنم ولا تعود إلا متأخرة، وهو يريد أن يحلب الغنم فيتأخر عليه اللبن، فكل يوم يعاقبها ويعاتبها، فجاءته وهو متحير فقالت: ماذا بك؟فضربها وزجرها، وقال: ليس هذا إليك. فظل أياماً على تلك الحالة، ثم قالت له الجارية: هؤلاء الضيوف أكلوا الغنم، وكل يوم أنت تذبح لهم، فكأنه رق لها، وقال: أنا أقول لك القصة، وأخبرها بالقصة، فقالت: اتبع الحكم المبال، يعني: إذا كان يبول من آلة الرجل فعامله على أنه رجل، وإذا كان يبول من آلة الأنثى فعامله على أنه أنثى، فضع حكمك على بوله وتنتهي القضية.فصار يمشي في الدار ويقول بيتاً من الشعر آخره:فرج الله عنك يا سخيلة! وفي معناه أنه لن يعاتبها بعد اليوم. ودخل على ضيوفه وأخبرهم الخبر، وهذا الحكم الشرعي أثبته الإسلام اليوم، فالخنثى الذي له آلتان يتبع الحكم فيه على مباله، إن كان يبول من آلة الرجل يُعامل على أنه رجل، وإن كان يبول من آلة الأنثى يحكم له بأنه أنثى في الميراث، والذي قال هذا امرأة يقال لها: سخيلة.والشاهد في هذه القصة قول الأوزاعي، رحمه الله: فهذا رجل مشرك لا يخاف الله، ولا يرجو الجنة، ولا يخاف ناراً، يتوقف في حكم أربعين صباحاً يخاف أن يقول خطأ، فكيف بمن يتكلم على لسان الله ولسان رسوله (صلى الله عليه وسلم)؟ولهذا من أعظم ما يدل على قوة طالب العلم الحقيقي أن يتريث في الفتوى، وأن لا يستعجل، ولا يتصدر قبل أوانه، ولا يحكم حتى يتبين له الأمر.وقد حذر الفقهاء السابقون من المزالق التي يقع فيها المفتي تجنبا للوقوع في الإفتاء دون علم، ووضعوا الضوابط المناسبة لعلاجها.ومن خلال ذلك حرص الفقهاء على التحذير من بعض الظواهر السلبية التي تتصل بالفتوى والمفتي، والتي لها أثر سلبي على المجتمع الإسلامي، كالتسرع والتسارع إلى الفتوى، والتساهل فيها، والتعجل فيها، ووردت النصوص الفقهية لتحذر منه، هذا في زمانهم.أما في زماننا فقد ضعفت الملكات العلمية، وخفت الذمم، فبرز التساهل في الفتوى بصورة جلية واضحة؛ إضافة لتصدي من لا يصلح للإفتاء؛ وحصول التعجل فيها؛ فضلا عن التضارب الحادث بين المفتين، وتباين ما يفتون به الناس.امام وخطيب
[email protected]