كوميدية باعت أثاث منزلها حتى تدبر معيشتهاالقاهرة - محمد حليم:من يقترب من حياة مشاهير الفن، يجدها أكثر درامية ومأساوية من الأعمال الفنية التي قدموها وجسدوا شخصياتها رغم وهج الشهرة والحفلات والثراء الذي تمتعوا به لسنوات طويلة. في هذه الحلقات تقترب "السياسة "، أكثر من حياة مجموعة من أشهر نجوم الفن، ممن بلغوا قمة النجومية والشهرة وحققوا الملايين، عاشوا حياتهم بالطول والعرض، وأنفقوا ببذخ، لكن النهاية التي كتبها القدر كانت أكثر مأساوية مما نشاهده في الأعمال الدرامية.
* عمها حاربها بسبب موهبتها فغيَّرت اسمها حتى لا يعرفها* عملت مونولوجست وراقصة ثم اتجهت للمسرح والسينما * قدمت أكثر من 400 فيلم مع أشهر النجوم* خاصمتها الأضواء فأعادها عبدالناصر ومنحها السادات معاشاً شهرياًرسمت الضحكة على وجوه المشاهدين، أسكنت في قلوبهم البهجة، وجعلتهم يواجهون التلفزيون لمشاهدة أفلامها، أجيال تتعاقب، وتظل هي في القلوب، ليس فقط ممن عاصروها. ورغم أنها بدأت مسيرتها بصراع مع عائلتها، واستمرت في السعي وراء حلمها، حتى أصبحت من نجمات الكوميديا المصرية، لكنها بعد كل هذا المشوار الطويل من الثراء الكوميدي والفني، انتهت حياتها بشكل تراجيدي، لدرجة أنها اضطرت لأن تبيع أثاث منزلها حتى تستطيع أن تعيش.إنها الفنانة زينات صدقي، التي ولدت العام 1913، في حي الجمرك بمحافظة الإسكندرية، حيث يتمركز الصيادون، اسمها الحقيقي زينب محمد سعد، أما اسم الشهرة فجاء بعد أن احترفت الفن.بدأ التشكيل الفني للطفلة زينب في منزلها، عندما طلبت أمها حفيظة حسن من والدها محمد سعد أن يحضر لها عودا، كانت حفيظة تمتلك موهبة الغناء، تدرك الألحان وتطرب أسرتها بصوتها، ولأن الغناء وقتها كان يعد عيبا، لربما كانت قد عرفت طريقها إلى النجومية، استغرب محمد سعد وهو يردد "عود ياحفيظة!!" وتسائل كيف ومتى عرفت هذه الآلة الموسيقية؟. كان سعد يتوقع أن تطلب منه عقدا أو خاتما ذهب كبقية الزوجات، لكن الأمر جاء على عكس التوقعات تمامًا مما أثار الدهشة في نفسه، تبتسم حفيظة بعد أن سمعت تساؤلات زوجها، تعود بذاكرتها إلى الماضي، كان جيرانها في "الأنفوشي" حيث نشأت، يزوجون ابنتهم الوحيدة، فأقاموا ليلة غنائية رائعة، حضرتها "بمبة العوادة" احدى عازفات العود المعروفات في الإسكندرية قديمًا، رأتها حفيظة وهي تعزف، ومن وقتها تمنت أن تمتلك آلة العود.أقنعت حفيظة زوجها، وافق سعد شرط أن يكون العود داخل المنزل فقط، لما كان يحيط الموسيقيون من شبهات، بعدها اتجه سعد لأحد "الآلاتية" كما كانوا يعرفون وقتها، وأحضر لها العود في سرية منعًا للحرج.العود في المنزل، الأم تمسكه، تعزف عليه الألحان بعد أن علمت نفسها بنفسها، تشيع البهجة في أرجاء الأسرة، الطفلة الصغيرة زينب تأتي مسرعة، الضحكة ترتسم على وجهها، تجلس بجانب أمها، وهي تعزف، تستمع إلى دقات العود، تصمت وتركز في كل لحن، وحينما تنتهي الأم تبكي الصغيرة ولا يستطيع أحد أن يجعلها تكف إلا أن تعود إلى أذانها نغمات العود مجددا.تستيقظ زينب في الصباح، تجد والدها قد ذهب إلى العمل، تبدأ حركتها بالمنزل، لا تبحث عن دميتها لتلهو بها مثل بقية الأطفال، بل تبحث عن أمها، تريدها أن تمسك العود، كي تنعش روحها بنغماته.قهوة السوهاجيذات مرة كانت الأم مشغولة بشؤون المنزل، فطلبت من الأب أن يصطحب زينب معه طالما سيخرج، لأنها لا تدعها تفعل شيئا، وبالفعل أخذ الأب ابنته وذهب بها إلى المقهى الذي اعتاد ارتياده، فجلست لأول وهلة صامتة، تركز في كل ما يدور حولها، هناك كان الشيخ تمام السوهاجي وفرقته بالمقهى ويردد أشعار وحكايات السيرة الهلالية، والجالسون يرددون خلفه، لاحظ والدها أنها مشدودة لهذا العالم الذي لا تستطيع أن تستوعب منه شيئا، لكنه لم يبال بالأمر، إلا أنها أصبحت تلح عليه بأن يأخذها معه كلما جاء الى المقهى، فكان يرضخ لشغفها، يفاجأ والدها بأنها حفظت ما تردد من حكايات، ولديها القدرة على أن تشدو بما تسمعه، كما أصاب الذهول الشيخ تمام السوهاجي عندما سمعها، أراد تكريمها، طلب من والدها بدلا من أن تجلس في المقهى، أن تلقي الأشعار مع فرقته، رفض الوالد منعًا للحرج والأقاويل، أقنعه الشيخ بأنها طفلة دون الخامسة، وبدأت تغني معهم مرتدية فستانًا حريريا، أحضره والدها لها في عيد الأضحى، كانت ليلة سعيدة لا تنساها صاحبة أجمل الضحكات في السينما المصرية، لكنها مثل رحلتها في الحياة، ضحكة انتهت بألم، إذ دخل عمها المقهى، فوجد ابنة أخيه تغني، سارع بضربها أمام والدها الذي توارى احتراما لأخيه الأكبر، من بعدها بدأت مضايقات عائلة أبيها، فأصر الوالد على جلوسها في المنزل منعًا للمشاكل.تمكث الطفلة زينب حزينة في المنزل، تتذكر جلساتها في المقهى، تتكئ برأسها على وسادتها، تتذكر أشعار الهلالي، والناس يصفقون لها، كانت تود أن تستكمل الذهاب برفقة والدها إلى المقهى، فقد كان هو المسرح الذي ترى فيه حلمها. يمر الوقت، وتلتحق التلميذة الشغوفة بالفن، بالمدرسة الابتدائية في الإسكندرية، لكنها تعود إلى المنزل مرة أخرى، بعد أن قضت عامين فقط في المدرسة، فلم تسمح أحوال أسرتها المادية بإتمام تعليمها.
تجلس زينب إلى جانب والديها تنتظر أن يأتي صاحب السعد الذي يطرق بابها، كي تتزوج وتبدأ حياتها مثل غيرها كربة منزل ترعى الأولاد، تكبر صاحبة أجمل الضحكات، أتمت 15 ربيعا، يطرق الباب طبيب كان أكبر منها بسنوات، هو ابن عمها، تتزوجه، لكنها أيضًا رحلة لا تتم، قبل أن ينتهي العام حدث الطلاق بعد 11 شهر فقط من الزواج، لما شهدته منه من سوء المعاملة، لتعود إلى أسرتها، بعدها يتوفى والدها فيستولى عمها على ميراث أبيها، ضاقت الظروف، فلم تجد إلا الفن طريقا تسلكه لتخفف أعباء المعيشة على والدتها.سنية ترتر تبدأ زينب رحلتها من جديد كمونولوجست وراقصة قبل أن تعرف شغفها إلى التمثيل، اشتهرت في جميع ملاهي الإسكندرية، وارتسمت الضحكة على وجهها مرة أخرى، لكن عمها عاد ليمارس عنفه تجاه أسرة أخيه ويقف في طريقها، حتى لا تجلب لهم العار، فاضطرت للانتقال مع والدتها إلى سكن جديد، واختارت لنفسها اسمًا آخر حتى تهرب من مضايقات العائلة، فحملت اسم والد صديقتها خيرية صدقي، لتستكمل مسيرتها باسم زينب صدقي.تظل زينب تغني في الملاهي، وخلال غنائها في أحد كازينوهات الإسكندرية، التقت الفنان المسرحي زكي طليمات، الذي مد لها يد العون، وساعدها في الالتحاق بمعهد أنصار التمثيل، لكنها لم تستمر فيه كثيرًا، بسبب إغلاق الحكومة له، ورغم عدم استكمال دراستها، أنار لها طليمات الطريق وعرفها إلى التمثيل، وشجعها على الانتقال إلى القاهرة، وفي كازينو بديعة مصابني الذي عملت به كراقصة ومونولوجست، حتى تجد فرصتها في التمثيل التقت الفنان نجيب الريحاني، فضمها إلى فرقته المسرحية، ووفر لها سكنا قريبا من المسرح وأطلق عليها اسم زينات صدقي، لتنطلق تحت هذا الاسم في مسيرة فنية حافلة تركت في قلوب الجميع الضحكات التي لا يستطيع أي شيء أن يمحوها.بدأت زينات رحلتها مع الريحاني، بتقديم أدوار صغيرة، تصعد المسرح لتقول كلمة أو كلمتين، ومع مسرحية "الجنيه المصري"، عرفت شهرتها الفنية، ويعتبر هذا أول أدوارها حيث قدمت دور خادمة دلوعة.تمر الأعوام، وتحقق زينات صدقي نجاحات كبيرة، تقف أمام ألمع النجوم مثل أنور وجدي، إسماعيل ياسين، فريد الأطرش، عبدالحليم حافظ، وغيرهم الكثير، تميزت بدور العانس ومن خلاله أطلقت إفيهات يرددها الناس حتى الآن مثل "يعنى أنا اللى هفضل كده من غير جواز؟ ده حتى مش كويس على عقلي الباطن يا إخواتي!"، قاسمت كبار النجوم بطولاتهم وفي مقدمتهم الفنان إسماعيل ياسين ولعل أشهر أفلامهما "ابن حميدو" وجملتها الشهيرة "الوحش الكاسر الأسد الغادر، إنسان الغاب طويل الناب"، وأيضا الكوميديان عبدالسلام النابلسي وفيلمهما الشهير "شارع الحب" مع العندليب عبدالحليم حافظ، عندما جسدت دور "سنية ترتر"، فمن ينسى المشهد الذي تنام فيه على السرير ووضعت صورة النابلسي "حسب الله السادس عشر" على الوسادة الخالية بجانبها وصوتها الذي يأبى أن يغادر المتلقي "حسب الله حسبولو حسبولي.. املألي الوسادة الخالية"، وعبارتها الشهيرة بعد أن تزوجته "أمرك يا سبعي يا جملي، يا مستبد يا سادس عشر، نوم العوافي يا عريس متعافي، يا أسطى في المزيكا". زواج سريقدمت زينات صدقي للفن نحو 400 عمل، لعبت فيها دور السنيد، تقف إلى جانب البطل تسانده خلال أحداث الفيلم، من هذه الأفلام "تمر حنة، المجانين في نعيم، عفريت مراتي، معبودة الجماهير، أشجع رجل في العالم، السيرك، السراب، عريس مراتي، أبو عيون جريئة، إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين، العتبة الخضراء، وحلاق السيدات".كما ظلت زينات تعشق المسرح، ورغم تألقها في السينما إلا أن الوقوف على خشبة المسرح عاد يراودها من جديد، فانضمت لفرقة إسماعيل ياسين في العام 1954، وقدمت معه "كناس في غاردن سيتي، أنا عايزة مليونير، الكورة مع بلبل، جوزي كداب، الحب لما يفرقع".رغم أنها تزوجت في صغرها، إلا أن حلم الزواج، كان يداعبها من وقت لآخر حتى تقضي على لقب العانس الذي ظل ملتصقا باسمها طوال حياتها، وتردد في هذا الشأن أنها تزوجت في الخمسينات من أحد الضباط الأحرار، وأن الزواج تم في سرية، لكنه انتهى عندما طالبها زوجها باعتزال الفن، رفضت زينات التخلي عن حلمها، تفاقمت المشكلات بينهما، وانتهت بالطلاق.مرت السنوات وكلما تقدم بها العمر، قل وهجها الفني، فما عاد المنتجون والمخرجون يرشحونها إلا في أدوار بسيطة لا تليق باسمها الفني، بدأت زينات تدخل في حالة عزلة، واستقرت في منزلها حفاظًا على قامتها الفنية، الأمور ازدادت سوءا، بدأت أحوالها المادية تتدهور، يلاحقها مندوبو الضرائب على كافة أعمالها، لا تجد مفرًا من دفع الضرائب، فتضطر إلى بيع أثاث بيتها.وبسبب ما وصلت إليه من فقر، هجرت زينات الفن ووقعت فريسة الاكتئاب، ما دفعها إلى الانتقال إلى قرية ريفية بعيدة حتى لا يعرف عنها أحد شيئا، جلست في المنزل الريفي، يملأ السواد جفونها، وضاقت عيناها من الحزن والمرض، لا رفيق لها سوى ذكرياتها.فستان جيهانمضت الأيام، ولاحظ الرئيس جمال عبدالناصر آنذاك، اختفاء زينات، تمتلكه الحيرة، وسأل عنها، لم يجد عبدالناصر من يرد عليه من أهل الفن، فكلف أجهزة الدولة أن تبحث عنها، لتجدها في المنزل الريفي الذي تعيش فيه بمنأى عن الجميع، وعندما عرف عبدالناصر بأحوالها، وقف إلى جانبها وقرر صرف مبلغ مالي لها، وتكريمها في حفلة أعادتها للأذهان مرة أخرى، بعدها عادت زينات إلى السينما، ثم حدثت نكسة يونيو، فتوقفت صناعة السينما، ورغم حالتها الصحية لم تبخل على وطنها وشاركت في قطار المجهود الحربي لجمع التبرعات.ضاقت الظروف بزينات مجددًا، فلجأت من جديد إلى بيع أثاث منزلها الذي كان أمر به عبدالناصر، لتختفي بعدها عن الأنظار تمامًا، رحل جمال عبدالناصر، وجاء خلفه الرئيس أنور السادات، وتذكر زينات صدقي ودعاها إلى حفل تكريم، كي تتسلم درع الفن، لكن عجزت زينات عن الرد، كانت ملابسها تهالكت، ليس لديها فستانا واحدا يليق بقيمة الحفل الرئاسي كي تحضر به المناسبة، ولم تعد تمتلك سوى عباءات متهالكة.علم الرئيس السادات بحالتها المادية السيئة، وحزن لأجلها وتساءل بينه وبين نفسه، هل يعقل أن زينات صدقي لا تملك أموالا تشتري بها فستانا واحدا يليق بحفل التكريم؟!... هذه الفنانة التي ظلت تعمل في السينما والمسرح وكانت نجمة الفن لأكثر من 30 عاما، وعلى الفور أرسل السادات لها زوجته جيهان السادات بحجة دعوتها لحضور الحفل الرئاسي، وأخذت معها فستانًا خاصا يليق باسم الفنانة الكبيرة حتى تحضر به حفل تكريمها من الرئيس.لم تجد زينات مفرًا من الحضور، فزوجة رئيس الجمهورية حضرت بنفسها إلى منزلها لدعوتها، وقد جلبت لها ملابس مهندمة، وبعد حفل التكريم، حاول السادات أن يجعل حياتها سعيدة بعد الأيام المؤلمة، فقرر صرف معاشا شهريا قدره 100 جنيه مدى الحياة، ومكافأة عن مجمل أعمالها قدرها 1000 جنيه، ولم يكتف السادات بذلك بل أرسل لها رقم هاتفه الشخصي وطلب أن تتصل به في حالة مرورها بأي مشكلة أو ضائقة، لكن لم يمر الكثير من الوقت بعد أن تحسنت أحوالها، وأصيبت زينات بماء على الرئة لتفارق الحياة بعدها، وترحل عن عمر 64 عاما في مارس 1978، ورغم رحيلها بجسدها لكنها ظلت باقية تضحك أجيالا لم تعاصرها، بأعمال تكشف خفة ظلها وقدرتها التي لم ينافسها فيها أحد في تقديم الكوميديا، رحلت زينات وبقى اسمها في تاريخ الفن من أهم نجمات السينما والمسرح، وأشهر عانس في أعمالها، لقد كانت بالفعل ورقة الكوميديا الرابحة لكل المنتجين والمخرجين الذين استعانوا بها.

زينات صدقي عندما كرمها الرئيس السادات