الاقتصادية
هل يفقد الدولار مكانته في قيادة الاقتصاد العالمي على غرار الاسترليني؟
السبت 25 يوليو 2020
5
السياسة
تتزايد التكهنات كل فترة بشأن قرب فقدان الدولار لمكانته كعملة الاحتياط الأولى في العالم، مع مخاوف ارتفاع الديون والعجز التجاري والمالي المتزايد.ويحتاج العالم لعملة احتياط مقبولة في التعاملات الخارجية المتبادلة بين الأفراد والدول ويمكن أن تقوم بدور النقود المتمثل في "مخزن القيمة ووسيلة التبادل ووحدة حساب" على النطاق الدولي.ومع حقيقة أن اختفاء عملات الاحتياط يعتبر أمراً مألوفاً من الناحية التاريخية، فإن التجارب السابقة تشير إلى وجود أسباب مشتركة تجمع قصص الصعود والهبوط للعملات المستخدمة دولياً على نطاق واسع.في معظم أوقات القرنين السابع والثامن عشر كانت عملة الخولده أو الغيلدر الهولندي تسيطر على التعاملات في أوروبا فيما يمثل أول عملة احتياط بالمعنى المتعارف عليه في العالم.ومع صعود هولندا كقوة سياسية وعسكرية وتجارية وانتشار سفنها في معظم بقاع العالم آنذاك، اكتسبت عملتها شعبية ملحوظة وتزايد استخدامها في التعاملات الدولية لتمثل نحو ثلث الإجمالي العالمي.كما ساعد إنشاء أول سوق كبير لتبادل الأوراق المالية في أن تصبح هولندا مركزاً مالياً مرموقاً يجتذب التجار من كل أنحاء العالم، وهو ما دعّم مركز الغيلدر كعملة الاحتياط الأكبر آنذاك.وبعد سنوات من تراجع التنافسية والصراعات التجارية والمصادمات العسكرية والسياسية بسبب الرغبة في السيطرة على التجارة خاصة في آسيا، جاءت الحرب "الإنجليزية- الهولندية" الرابعة في الفترة بين 1780 وحتى 1784 والانتصار الكاسح لبريطانيا فيها لتكتب نهاية السيطرة الهولندية.ومع خسارة الحرب وتراجع التنافسية وانحسار الدور التجاري وانهيار الثقة في كفاءة وملاءة بنك أوف أمستردام، تنحى الغيلدر جانباً ليفسح المجال أمام العملة القادمة لاحتلال عرش العالم: الجنيه الإسترليني.بعد التخلص من المنافس الهولندي، أصبحت بريطانيا أكبر قوة اقتصادية وتجارية وعسكرية في العالم، مع تكوين مستعمرات في عدد كبير من مناطق العالم.وبحلول عام 1860 كانت بريطانيا تستوعب أكثر من 30% من الصادرات العالمية، كما احتلت صدارة الدول الأكثر تصديراً للسلع الصناعية والخدمات، ناهيك عن استخدام الإسترليني لتسوية أكثر من نصف التجارة العالمية.ونجحت لندن في أن تصبح مركزاً مالياً عالمياً يجتذب الراغبين في الاستثمار والاقتراض حول العالم، ما جعل الإسترليني العملة الأكثر طلباً آنذاك، وبدأ البساط ينسحب تدريجياً من بريطانيا مع بزوغ قوى أخرى على الساحة العالمية خاصة الولايات المتحدة والتي نجحت في اكتساب قوة اقتصادية ملحوظة جعلت الدولار يكتسب شعبية متصاعدة في الاحتياطات الدولية.لكن الإسترليني حافظ على مكانته على قمة الهرم بفضل المركز التجاري والمالي والانتشار الجغرافي للمستعمرات، حتى اشتعال الحرب العالمية الأولى ومع خروج بريطانيا منتصرة من الحرب قرر "ونستون تشرشل" عندما كان وزيرا للخزانة العودة لقاعدة الذهب في عام 1925.ودخلت بريطانيا في ركود اقتصادي عميق مع جبل الديون التي خرجت بها من الحرب والقيمة المبالغ فيها للعملة والتي قلصت القدرة التنافسية للصادرات البريطانية مقارنة بالقوى الصناعية الأخرى.ومع إدراك الحقائق الجديدة، خرجت بريطانيا نهائياً من قاعدة الذهب في 1931 وسط خفض مستمر لقيمة الإسترليني ، وكانت الحرب العالمية الثانية بمثابة "بداية النهاية" للمكانة الدولية للجنيه الإسترليني،ورغم خروج بريطانيا منتصرة من الحرب، فإنها كانت الطرف الأكثر إجهاداً سواء على المستوى العسكري أو الاقتصادي، خاصة مع ارتفاع ديونها بشكل حاد وتضرر بنيتها التحتية.وعلى النقيض، خرجت الولايات المتحدة من الحرب كقوى عظمى عسكرياً، بالإضافة إلى حقيقة أنها الدائن الأكبر لمعظم الدول الحلفاء، وهو ما مكنها من رسم خريطة النظام الاقتصادي الجديد لفترة ما بعد الحرب.وتمخضت الحرب عن اتفاق "بريتون وودز" الذي ربط الدولار الأمريكي بالذهب عند سعر ثابت، ما جعل باقي دول العالم تربط عملاتها بالورقة الخضراء مباشرة لتصبح الأخيرة العملة الأكثر طلباً وأهمية في النظام العالمي.واستمرت الفجوة في الاتساع بين الدولار الآخذ في كسب الأرض عالمياً والإسترليني الذي تتراجع مكانته في الاحتياطات الدولية.ويظهر التاريح أن عوامل خسارة الباوند البريطاني لمكانته الدولية تشابهت مع ما حدث للغيلدر الهولندي: فقدان التفوق الاقتصادي والتجاري والعسكري مع ظهور منافس أكثر تنافسية وقوة بالإضافة إلى ارتفاع الديون وتدني الثقة في العملة.ورغم أن المكانة الدولية للعملة غالباً ما تستمر لفترة ممتدة من الزمن، فإن استمرار السيطرة إلى الأبد يبدو أمراً غير مرجح تاريخياً.