واشنطن لم تتعلَّم من أخطاء الماضي ودورها يتداعى في الشرق الأوسط

* تقدم "طالبان" ليس فقط فشلاً عسكرياً واستخباراتياً أميركياً لكنه "كارثة ستراتيجية"
* بعض حلفاء واشنطن في الخليج سيكونون "غير مُستقرّين" بسبب التطورات الأخيرة
* الجهود لتحسين الجيش الأفغاني كانت فاشلة وأميركا ارتكبت أكبر خطأ استخباراتي
* العيوب المُتأصلة في خطة عمل "الناتو" تُجاه أفغانستان جعلت عودة طالبان أمراً حتمياً
* الصين استغلت الانسحاب للتحقير من شأن أميركا وشكَّكت في قدرتها على الدفاع عن تايوان



كتب ـ عمر الحسن

قابل الغرب بمزيج من القلق والارتباك، سرعة سقوط أفغانستان في أيدي طالبان خلافًا لما أعلنه المسؤولون الأميركيون من أن هذا الأمر قد يستغرق عدة أشهر، وليس أحد عشر يومًا مثلما حدث بالفعل.
وفاجأ دخول طالبان السريع إلى كابول في 15 أغسطس الفائت، الإدارة الأميركية وخبراء السياسة الخارجية، وأعادت إلى الأذهان تشابه فشل السياسة الخارجية الأميركية في أفغانستان مع سابقاتها، في فيتنام منتصف سبعينيات القرن الماضي، فيما تضمنت الانتقادات بشكل أساسي الإخفاقات المخابراتية، مع الاعتراف بأوجه الضعف طويلة الأمد للجيش الأفغاني، والقلق بشأن عودة أفغانستان ملاذًا آمنًا للإرهابيين، ومدى موثوقية الاعتماد على الولايات المتحدة كحليف.
وتمثلت هذه الانتقادات في التقليل من شأن سرعة تقدم طالبان، والمبالغة في تقدير القدرة والإرادة القتالية للجيش الأفغاني، وهو ما وصفه "بيل روجيو"، من "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات"، بأنه "أكبر خطأ استخباراتي عسكري أميركي منذ هجوم تيت، الذي شنّه الفيتناميون على القوات الأميركية في حرب فيتنام عام 1968".
وقالت "كاترينا مانسون" من "فاينانشال تايمز": إن ما حدث "كشف إخفاقات في تقديرات المخابرات الأميركية للموقف"، فيما انتقد "بيتر ريكيتس"، مستشار الأمن القومي السابق لرئيس الوزراء البريطاني، "الفشل الاستخباري الغربي الهائل في أفغانستان، معتبراً أن محادثات ترامب مع طالبان في قطر "كانت ضربة معنوية كبيرة للحكومة الأفغانية"، ضاعفها إعلان بايدن الانسحاب في أبريل 2021.
واعتبر "مايكل روبين"، من "معهد المشروع الأميركي"، تقدم طالبان ليس فقط فشلاً عسكرياً واستخباراتياً أميركياً، لكنه "كارثة ستراتيجية".
وتبنَّت إدارتا "ترامب"، و"بايدن"، مسألة انسحاب أميركا على أساس أن قدراتها الاستخباراتية ستمكنها من الحفاظ على التدخل السريع وهو ما تبين "عدم صحته"؛ لجهة التقليل من سرعة تقدم طالبان، والغفلة عن الاتفاقات التي أجرتها مع اقتراب الانسحاب".
ولتوضيح سبب حدوث هذه الإخفاقات؛ رأى "روبين"، أنه "ليس جديدًا على الاستخبارات الأميركية، التي قد تشوه المعلومات لدعم المبادرات الديبلوماسية".
وأضاف الصحافي"ديفيد سانغر" من "نيويورك تايمز" إلى الخطأ الاستخباري، المبالغة في تقدير نتائج 83 مليار دولار أنفقتها واشنطن منذ عام 2001 على التدريب وتجهيز قوات الأمن الأفغانية، فضلاً عن الاستخفاف بحركة طالبان".
ومن المعلوم، أنه كان هناك إخفاق بشأن قدرات الجيش الأفغاني، وأنه سيكون قادرًا بما حصل عليه من دعم أميركي تدريبي ومعدات على صد عودة طالبان في مقاربة أخرى واضحة مع الأحداث في فيتنام، إلى أن ظهرت نقاط ضعفه التي تمثلت في انعدام التماسك والوحدة والروح القتالية. وفي واقع الأمر، فإن سيناريو التقدم الأخير لطالبان كان متوقعًا من قبل الإدارة الأميركية لكنها لم تقدر سرعته بشكل دقيق، كما لم تتدخل بشكل كبير.
وخلص تقرير صادر عن "وكالات الاستخبارات الأميركية" أواخر يونيو الماضي، إلى أن حكومة أفغانستان ستنهار في غضون ستة أشهر من الانسحاب، وفي 11 أغسطس 2021، حذر مسؤولو الدفاع الأميركيون من سيطرة طالبان في غضون 90 يومًا؛ لكن طالبان سيطرت على المدن الأفغانية الرئيسية في غضون أيام، وسقطت معظم البلاد بحلول 15 أغسطس، وهو ما بيّن سوء تقدير "الخارجية الأميركية"، لأهمية التفوق العددي للجيش الأفغاني "300 ألف"، مقابل طالبان "75 ألفا".
ووفقًا لـ"مانسون"، جاءت "نقطة التحول" في انهيار الجيش أمام طالبان عندما سقطت مدينة "زارانجي"، في 6 أغسطس.
وعلى الرغم من امتلاك الجيش الأفغاني أعدادًا كبيرة ومعدات أفضل، ودعمًا ماليًا، إلا أنه انهار بسبب عدم امتلاكه الإرادة لمحاربة أيديولوجية طالبان.
وعلق "روبرت بيرنز"، من "الأسوشيتيد برس"، أن "المستفيد النهائي من مليارات الدولارات التي أنفقت في أفغانستان، هي طالبان"، وأن العنصر الحاسم في انهيار الجيش الأفغاني هو افتقاده الدافع القتالي".
هذا الفشل الاستخباراتي اعترف به بلينكن يوم 15 أغسطس، بأن القوات الأفغانية "أثبتت عدم قدرتها على الدفاع عن البلاد، وأن هذا حدث بسرعة أكبر مما توقعنا".
وبحسب الكثير من الخبراء، فإن قرار بايدن بسحب القوات من أفغانستان كان "مُتعجلًا وغير مدروس"، وهو ما أكد عليه "بروس ريدل"، من "معهد بروكينجز"، كما انتقده "جيمس كننغهام"، السفير الأميركي السابق في أفغانستان، فيما وصف "ديفيد بتريوس"، القائد الأميركي السابق في أفغانستان، الوضع بأنه "كارثي"، وحث واشنطن على "التراجع عن هذا القرار حرفيا"، وأضاف أنه "لا توجد نتيجة جيدة ما لم تدرك أميركا وحلفاؤها أننا ارتكبنا خطأ فادحًا".
وعلى الرغم من ذلك، أعاد "بايدن"، تبرير موقفه، مؤكدا أنه "لا يشعر بأي ندم على توقيت الانسحاب".
وفي حديثه، يوم 16 أغسطس الماضي -ثاني يوم سقوط كابول- أكد أنه لن "يضلل الشعب الأميركي بالادعاء بأن قضاء المزيد من الوقت في أفغانستان كان سيُحدث فرقا كبيرا".
وبالفعل، قلت الانتقادات الموجهة لدور بايدن المباشر، أيضًا من خلال التفكير في أن هذا الاحتمال المأساوي لا مفر منه إلى حد ما، وأنه كان مضطرًا في خياراته، أمام تصرفات أسلافه، التي تمتد إلى عهد الرئيس الأسبق جورج. دبليو بوش.
وجادل "كريستوفر بريبل"، من "المجلس الأطلسي"، بأنه بدلاً من أن يكون ذلك نتيجة لقرار بايدن بالانسحاب، فقد "كانت هذه المأساة تلوح منذ وقت طويل"، وأن الجهود المبذولة لتحسين الجيش الأفغاني كانت "فاشلة تمامًا" من الوقت الذي بدأت فيه لأول مرة".
غير أن هذا لا يبرر فشل واشنطن في حماية المدنيين الغربيين، الذين يسعون لمغادرة أفغانستان، والأفغان الذين يسعون للهروب من عنف وإرهاب طالبان. وذكرت شبكة "إن بي سي نيوز"، أنه "لايزال عشرات الآلاف في خطر الوقوع في براثن طالبان"، وردا على ذلك، اعترف وزير الدفاع البريطاني، "بن والاس"، بأنَّ "بعض الناس لن يغادروا أفغانستان"، بينما أقر رئيس الوزراء الأسترالي، "سكوت موريسون"، أن بلاده "لن تصل إلى كل من يهمها أمره هناك".
وبالإضافة إلى الفوضى وعدم الاستعداد لخطط الإجلاء، وجدت واشنطن ولندن نفسيهما في حالة تتطلب عودة القوات إلى أفغانستان لتأمين المطار في كابول، وأمر بايدن 5000 بالعودة للمساعدة في جهود الإجلاء.
طرح هذا الوضع تساؤلا من قبل المحللين، وهو: هل تعود أفغانستان بعد هذا التطور ملاذًا للجماعات الإرهابية؟
وفي هذا الصدد، حذر كل من رئيس الوزراء البريطاني، "بوريس جونسون"، والرئيس الفرنسي، "إيمانويل ماكرون" من هذا الاحتمال، بينما حث الأمين العام للأمم المتحدة، "أنطونيو غوتيريس"، مجلس الأمن على "استخدام جميع الأدوات المتاحة تحت تصرفه لقمع التهديد الإرهابي العالمي في أفغانستان".
في غضون ذلك، صرح "أنتوني بلينكن"، وزير الخارجية الأميركي، أن بلاده ستعمل على "التأكد من أننا نحتفظ في المنطقة بالقدرة -والقوى اللازمة- لرصد أي إعادة ظهور لتهديد إرهابي والقدرة على التعامل معه".
وبعيدًا عن هذه الالتزامات، كانت هناك كذلك اقتراحات قليلة من القادة الغربيين حول كيفية تحقيق ذلك على المدى الطويل.
ومن نواحٍ عدة، يوجد اتفاق واسع النطاق بين خبراء مكافحة الإرهاب الغربيين على أن انتصار طالبان يمثل فرصة ذهبية للجماعات الإرهابية لإعادة تأسيس نفسها بعد عدة سنوات من تراجع أهميتها على الصعيد العالمي.
وهو الأمر الذي ذهب إليه "ناثان سيلز"، السفير الأميركي الأسبق، ومنسق مكافحة الإرهاب، واستمرارًا للقلق، علق "باري بافيل"، من "المجلس الأطلسي"، بأن "أفغانستان بقيادة طالبان، والتي توفر ملاذًا آمنًا للإرهابيين البارعين في مجال التكنولوجيا وتجنيد أتباع جدد عن بُعد؛ يمثل مستوى مختلفًا من التهديد الأمني عما كان عليه في السابق".
ومع تقديم بعض الحلول لمكافحة الإحياء المتوقع لقواعد الإرهابيين، شدد "دانيال بيمان"، من "معهد بروكنغز"، "أن هذا سيكون أقل فعالية مما لو كان لواشنطن وجود على الأرض في أفغانستان".
ويرى الكثير من الباحثين، أن العيوب المتأصلة في خطة عمل "الناتو" تجاه أفغانستان، بدءًا من مكافحة الإرهاب إلى بناء الدولة، قد جعلت عودة طالبان وهزيمة المساعي الغربية أمرًا حتميًا بالفعل.
وأوضح "أندرو بيك"، المسؤول السابق في "الخارجية الأميركية"، أن "هناك فجوة واسعة بين أفغانستان الوهمية التي يتم الحديث عنها في الدوائر السياسية، وهشاشة المؤسسات التي كنا نبنيها على أرض الواقع"،مضيفا، أنه بحلول أبريل الماضي ، "كانت واشنطن قد تجاوزت المراحل التي كان من شأنها تغيير نتيجة الحرب بطريقة ستراتيجية لصالحها".
من ناحية أخرى، ألقى الجدل السياسي الحالي، مزيدا من الشكوك، حول تحالفات واشنطن، ووعودها بحماية دول أخرى في العالم، سواء في أميركا الوسطى، أو الشرق الأوسط أو شرق آسيا، من ذلك التساؤل الذي طرحه "مارفن كالب" من "معهد بروكينغز"، بقوله "هل واشنطن لم تعد حليفًا موثوقًا به قادرًا على حشد العالم لتحقيق أهداف إنسانية مشتركة ومرغوبة من الكثيرين؟".
وخلص "جيمس كننغهام"، السفير السابق للولايات المتحدة في أفغانستان و"إسرائيل"، إلى أن "الأضرار الوخيمة التي لحقت بأمن أمريكا وحلفائها والمنطقة، قد حدثت بالفعل جراء هذا
الانسحاب، ناهيك عن الأضرار الأخرى التي لحقت بمصداقية الإدارة الأميركية".
وعلى هذا النحو، سيخلق الانسحاب مزيدا من المخاوف داخل منطقة الشرق الأوسط والخليج بصفة خاصة، وبالفعل، بدأت إدارة بايدن، الالتزام بخفض أعداد قواتها وعدد دفاعاتها في الكثير من المناطق المتوترة، لكن بما أن دول الخليج منخرطة في شراكة معها فيما يتعلق بالضمانات الدفاعية والأمنية، فإنه لا يوجد مجال حاليا للولايات المتحدة لسحب دعمها العسكري من جانب واحد من الخليج بالطريقة التي فعلتها في أفغانستان، كما أنه ليس من المنطقي أن يتم إثارة شكوك حول مدى القدرة التي تمتلكها فيما يتعلق بتوفيرها مزيدا من الإجراءات المستقبلية للدفاع عن حلفائها الرئيسيين حال أي انسحاب محتمل.
ووفقًا لـ"توني ووكر"، من "جامعة لاتروب"، الأسترالية، فإن بعض حلفاء واشنطن في الخليج سيكونون "غير مستقرين" بسبب التطورات الأخيرة.
وفي المقابل، بات هذا الانسحاب، مثيرا لاهتمام الكثير خاصة أعداء الولايات المتحدة، الذين سوف يسعون إلى استغلاله إلى أقصى حد، وفي هذا الصدد، كتب "جوناثان سباير"، من صحيفة "وول ستريت جورنال" قائلا: إن "إيران ترى أن واشنطن تركت مهامها القتالية في أفغانستان بصورة متهورة"، مما جعل هناك "شعورا واضحا بوجود نظام إقليمي متداعٍ"، مضيفا، أنه من المرجح أن يتفاقم هذا الأمر أكثر، حيث تسعى إلى تقليص أو إعفاء موظفين أميركيين من جميع التزاماتهم العملية في كل من العراق وسورية، وبسبب هذا المسعى، "تشعر طهران أن الوقت قد حان للمضي قدمًا، للنيل من أعدائها في الوقت الراهن".
في الوقت نفسه، استغلت الصين الانسحاب، للتحقير من شأن الولايات المتحدة، وأثارت شكوكًا في مدى قدرة الأخيرة في الدفاع عن تايوان حال مواجهة أي عدوان من قبل بكين. وأكدت صحيفة "غلوبال تايمز"، الصينية، أن "تخلي واشنطن عن حلفائها لحماية مصالحها هو عيب متأصل ومتجذر بعمق فيها منذ تأسيسها".
على العموم، يقول المعلقون الغربيون: إن سوء تعامل واشنطن، وحكومات غربية أخرى، مع قضية الانسحاب من أفغانستان أدى إلى نشوء طبيعة مأساوية استعادت من خلالها طالبان، أفغانستان، وانهارت الحكومة في كابول، وباتت هناك كارثة إنسانية، يبدو معها مستقبل البلاد قاتمًا، حيث لم تعد المساعدات الخارجية متوفرة، إضافة إلى أن انهيار مشروع بناء أفغانستان كدولة، فيما سيؤدي بدوره الى تقويض مهام مكافحة الإرهاب؛ ما يجعل من المرجح أن يسعى الإرهابيون في العالم إلى إيجاد ملاذ آمن لهم في أفغانستان وفق هؤلاء المعلقون الغربيون.
لكن أكثر ما يثير غضب هؤلاء المعلقين، هو أن هذه الأحداث الكارثية قد تكررت أكثر من مرة؛ في فيتنام والعراق، بما يبدو أن المسؤولين الأميركيين غير قادرين على التعلم من أخطاء الماضي على الرغم من تكبد واشنطن خسائر في الأرواح والأموال.
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية