الثلاثاء 15 أكتوبر 2024
34°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الأخيرة

ولد الهدى فالكائنات ضياء

Time
الأربعاء 21 نوفمبر 2018
View
5
السياسة
محمد الفوزان


كان ثوبان مولى رسولِ اللهِ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) شديدَ الحبِّ لهُ، قليلَ الصبرِ عنهُ، فأتاهُ ذاتَ يومٍ وقدْ تغيرَ لونهُ، ونحلَ جسمهُ، يُعرفُ في وجههِ الحزنُ، فقالَ لهُ النبيُّ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) : مَا غيّرَ لونكَ؟
قالَ: يا رسولَ اللهِ، ما بي ضرٌّ ولا وجعٌ، غيرَ أني إذا لمْ أركَ اشتقتُ إليكَ واستوحشتُ وحشةً شديدةً حتى ألقاكَ، ثمَّ ذكرتُ الآخرةَ، وأخافُ أنْ لا أراكَ هناكَ، لأني عرفتُ أنكَ تُرفع معَ النبيينَ، وأني إنْ دخلتُ الجنةَ كنتُ في منزلةٍ هيَ أدنى منْ منزلتكَ، وإنْ لمْ أدخلْ لا أراكَ أبدًا، فأنزلَ اللهُ، عزَّ وجلَّ، قولهُ:" وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا"( النساء: 69).
منْ رحمةِ اللهِ بنا أنْ بعثَ فينا محمدًا( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ)، وأمرنا بالإيمانِ بهِ وتصديقهِ، واتباعهِ، والاقتداءِ بهِ، والانتصارِ لهُ، ومحبتهِ، وتقديمهِ على النفسِ والمالِ والولدِ؛ فعلى يديهِ كملَ الدينُ، وبهِ ختمتِ الرسالاتُ، وأرسلَ إليهِ أفضلَ الشرائعِ، وأنزلَ إليهِ أفضلَ الكتبِ، فهوَ خليلُ اللهِ، وهوَ كليمُ اللهِ، وهوَ صفيهُ، وهوَ رسولهُ، وهوَ حبيبهُ.
وقدِ امتنَّ اللهُ بهِ على الثقلينِ؛ الإنسِ والجنِّ، وأرسلهُ إليهما معًا، ففتحَ اللهُ بهِ أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا، وأخرجَ بهِ الناسَ منَ الضلالةِ إلى الهدى.
إنهُ محمدٌ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) بلّغ الرسالةَ أحسنَ بلاغٍ، وأدى الأمانةَ أحسنَ أداءٍ، ونصحَ الأمةَ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادهِ.
محمدٌ بنُ عبدِ اللهِ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ): أعزُّ الناسِ نسبًا، وأشرفهمْ مكانةً، أظهرَ اللهُ على يديهِ منَ المعجزاتِ ما أبهرَ العقولَ، ففلقَ لهُ القمرَ فلقتينِ، وتكلمتِ الحيواناتُ بحضرتهِ، وسبحَ الطعامُ وتكاثرَ بينَ يديهِ، وسلمَ عليهِ الحجرُ
والشجرُ، وأخبرَ بالمغيباتِ، فما زالتْ تتحققُ في حياتهِ وبعدَ وفاتهِ.
إنهُ محمدٌ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) الذي اختصهُ اللهُ منْ بينِ إخوانهِ المرسلينَ بخصائصَ تفوقُ العدَّ، فلهُ الوسيلةُ والفضيلةُ والمقامُ المحمودُ ولواءُ الحمدِ.
محمدٌ( صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) الذي زكاهُ ربهُ تزكيةً ما عُرفتْ لأحدٍ غيرهُ منَ المخلوقينَ، فلقدْ زكى اللهُ عقلهُ فقالَ:" مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى"(النجم: 2)، وزكى لسانهُ فقالَ:" وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى"(النجم: 3)، وزكى شرعهُ فقالَ:" إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى"(النجم: 4)، وزكى قلبهُ فقالَ:" مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى"(النجم: 11)، وزكى بصرهُ فقالَ:" مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى"(النجم: 17)، وزكى أصحابهُ فقالَ:" وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا"(الفتح: 29).
وزكى أخلاقهُ فقالَ:" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ"(القلم: 4)، وزكى دعوتهُ فقالَ:" قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ"(يوسف: 108).
نعتهُ بالرسالةِ:"مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ"، وناداهُ بالنبوةِ:" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ"، وشرفهُ بالعبوديةِ فقالَ:" سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ"، وشهدَ لهُ بالقيامِ بها فقالَ:" وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا"(الجن: 19).
محمدٌ(صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ) الذي لا تحصَى فضائلهُ، ولا تعدُّ مزاياهُ، فما منْ صفةِ كمالٍ إلا واتّصفَ بها، ولا خصلةِ خيرٍ إلا وتحلى بها. جمعَ اللهُ له أجلَّ المقاماتِ، وأسمى المراتبِ، وأكملَ المناقبِ، إذا ذُكرَ العبادُ فهوَ إمامهمْ، وإذا أشيرَ إلى العلماءِ فهوَ معلمهمْ، وإذا أشيدَ بالشجعانِ فهوَ قائدهمْ، وإذا مُدحَ الدعاةُ فهوَ قدوتهمْ.
محمدٌ (صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) أرسلهُ اللهُ شاهدًا ومبشّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللهِ بإذنهِ وسراجًا منيرًا، شرحَ اللهُ لهُ صدرهُ، ووضعَ عنهُ وزرهَ، ورفعَ لهُ ذكرهُ وأعلى في العالمينَ قدرهُ، ما رآهُ أحدٌ إلا هابهُ، ولا عاشرهُ أحدٌ إلا أحبّهُ حبًّا جمًّا، صاحبُ الوجهِ الوضاءِ، والطهرِ والصفاءِ، دائمُ الابتسامةِ، مليحُ الوجهِ، أكحلُ العينينِ، كالقمرِ ليلةَ البدرِ استنارةً وضِياءً، أشدُّ حياءً منَ العذراءِ.
يقولُ أنسٌ(رضيَ اللهُ عنهُ):" مَا مَسَسْتُ حَرِيرًا وَلاَ دِيبَاجًا أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
كانَ يُعرفُ بريحِ الطيبِ إذا أقبلَ، أحسنُ الناسِ خَلقًا وخُلقًا، وأتقاهمْ للهِ وأخشاهمْ وأكرمُهمْ، أعظمُ الناسِ تواضعًا، يُخالطُ الفقيرَ والمسكينَ، ويمشي معهمْ، وينطلقُ معَ الجاريةِ الصغيرةِ تأخذُ بيدهِ حيثُ شاءتْ، ولا يتميزُ عنْ أصحابهِ بمظهرٍ، يزورُ كبيرهمْ ويسلّمُ على صبيانهمْ، يأتي ضعفاءهمْ ويعودُ مرضاهمْ، ويشهدُ جنائزهمْ، يجلسُ على الأرضِ ويأكلُ عليها، يعقِلُ الشاةَ ويحلبهَا، يخصفُ نعلهُ ويخيطُ ثوبهُ ويخدمُ أهلهُ.
يبيتُ اللياليَ طاويًا بلا عشاءٍ، يعصبُ الحجرَ والحجرينِ على بطنهِ منْ شدةِ الجوعِ، يقبلُ الهديةَ ولا يأخذُ الصدقةَ، أشجعُ الناسِ، وأرحمُ الناسِ، وصدقَ اللهُ:" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ"(الأنبياء: 107).
لنْ يَكْتملَ الإيمانُ الحقيقيُّ في قلوبنا، ولنْ نذوقَ حلاوتهُ، ونُحسُّ بالراحةِ النفسيةِ الحقيقيةِ والطمأنينةِ؛ حتى نحبَّ النبيَّ(صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) حبًّا أكثرَ منْ أنفسنا وأهلِينا وأموالنا وكلِّ الدنيا، فعنْ أبي هريرةَ( رضيَ اللهُ عنهُ) أنَّ رسولَ اللهِ (صلى اللهُ عليهِ وسلمَ) قالَ:" لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ".
رحم الله أحمد شوقي الذي أنشد فقال :
"وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ
وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
الـروحُ وَالـمَـلَأُ الـمَلائِكُ حَولَهُ
لِـلـديـنِ وَالـدُنـيـا بِهِ بُشَراءُ
وَالـعَـرشُ يَزهو وَالحَظيرَةُ تَزدَهي
وَالـمُـنـتَـهى وَالسِدرَةُ العَصماءُ
وَحَـديـقَـةُ الفُرقانِ ضاحِكَةُ الرُبا
بِـالـتُـرجُـمـانِ شَـذِيَّةٌ غَنّاءُ
وَالـوَحيُ يَقطُرُ سَلسَلاً مِن سَلسَلٍ
وَالـلَـوحُ وَالـقَـلَـمُ البَديعُ رُواءُ"
آخر الأخبار