السبت 02 أغسطس 2025
43°C weather icon
logo-icon
تم نسخ الرابط بنجاح
الأولى   /   الافتتاحية

يا ولاة الأمر... استعرضوا ما دار بين البرمكية وهارون الرشيد وحكمة بهلول

Time
السبت 11 فبراير 2023
السياسة
أحمد الجارالله

كانت مجالس الحكام، قديماً، مفتوحة للجميع، يؤمها العاقل والحكيم، وأحياناً، الحقمى والمجانين، وقد اشتهر في القرن التاسع الميلادي أن أحد القضاة الزاهد بالدنيا، وكان قاضياً وشاعراً حكيماً وقريباً من الخليفة هارون الرشيد، وهو أبو وهب بهلول بن عمرو الصيرفي الهاشمي العباسي الكوفي، زعم الجنون ليتهرب من القضاء.
ومما يُذكر عن بهلول، أنه طلب من هارون الرشيد أن يُحكمه بالعباد لمدة شهر، لكن الخليفة رفض، وبعد إلحاح من بهلول وافق الرشيد، واتفق الطرفان على أن يحكم بهلول البلاد لمدة يوم واحد؛ بشرط ألا يظلم أحدًا.
في اليوم المحدد لحكم بهلول، خرج الرشيد بصحبة زوجته زبيدة، وفي وسط النهار التقى هارون ببهلول، وكان الأخير يجرُّ خلفه قطيع حمير، فاستغرب الخليفة من المشهد، وسأله: "ما هذه الحمير يا بهلول؟ ومن أين أتيت بها؟".
أجابه بهلول: "مررت بالبلاد وتفحصت أحوال العباد، وجعلت ضريبة على كل رجل تحكمه زوجته حمارًا".
فقال الرشيد: "هل من المعقول، في مدة ساعتين تجد هذا الكمّ من الرجال محكومين لنسائهم؟".
فقال بهلول: "دعنا من هذا يا مولاي، المهم أني لم أظلم أحدًا"، وأردف قائلاً: "يا أمير المؤمنين، أثناء تجولي رأيت ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت".
فقال له هارون: "ماذا رأيت؟".
قال: "رأيت يا أمير المؤمنين فتاة جميلة جدًا، إذا خرجت في النهار تقول للشمس تنحي لأجلس مكانكِ، وإذا خرجت في الليل يغيب نور القمر وهو في ليلة البدر، فتمنيت أن تكون هذه الفتاة زوجة لك يا مولاي".
فالتفت إليه الرشيد وقال: "أخفض صوتك، كي لا تسمعنا السلطانة زبيدة"، عندها قال بهلول بصوت منخفض: "ولأنك أمير المؤمنين، فهات حمارين".
تنطبق حكمة بهلول تلك، في لغة عصرنا، على القوى والأحزاب والمتنفذين الذين يُسيطرون من خلف الستار على صُنّاع القرار، لذلك يكون ثمة مؤسسات ومستشارون وأصحاب رأي في العلن، لكن خلف الكواليس يكون الأمر للمتنفذين والقوى، هي التي تضع الخطوط العامة للقرار، وحين تتضارب مصالحها يكون هناك أكثر من قرار فيسلبها قوتها، وهيبتها.
لهذا تكون الدولة، أحياناً، بحاجة لبهلول كي يُنبه الحاكم إلى أن هيبته من هيبة الدولة، ولا يجب أن يخاف ممن يُحاولون ممارسة الضغط عليه، حتى لو كان من أهل بيته، فالقرار يمس بمصالح الدولة ككل، ولا يقف عند شخص الحاكم.
هذا الدرس تعلمه الخليفة هارون الرشيد جيداً حين أدرك حجم المؤامرة التي حبكها البرامكة ضده، وكيف أنهم سعوا إلى تقويض الخلافة، ولهذا حين دخلت عليه امرأة برمكية، وكان عنده جماعة من الوجهاء، استقبلها وقبل كلامها، الذي كانت تهاجمه فيه، بل دعت عليه، لكن آثر أن يُجاوبها بما يليق بالحكام أصحاب القرار، فقد قالت له: "يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك، وفرّحك بما أتاك، وأتمّ سعدك، لقد حكمت فقسطت".
فقال لها: "من تكونين أيتها المرأة؟".
فقالت: "أنا من آل برمك، ممن قتلت رجالهم، وأخذت أموالهم، وسلبت نوالهم".
فرد الخليفة: "أما الرجال فقد مضى فيهم أمر الله، ونفذ فيهم قدره، وأما المال فمردود إليكِ".
وبعدما انصرفت المرأة التفت إلى الحاضرين وسألهم: "أتدرون ما قالت المرأة البرمكية؟".
فقالوا: "ما نراها قالت إلا خيراً؟".
فقال، وقد كان معهودٌ عنه البلاغة: "ما أظنكم فهمتم مقصدها، فأما قولها أقرّ الله عينك، أي أسكنها عن الحركة، وإذا سكنت العين عن الحركة عميت، أما قولها فرّحك بما أتاك، فأخذته من قوله تعالى: "حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة..."، وقولها: أتم الله سعدك، فأخذته من قول الشاعر:
"إذا تمّ شيءٌ بدا نقصُهُ
ترقَّب زوالاً إذا قيل تم".
وفي قولها: لقد حكمت فقسطت، فأخذته من قول الله تعالى: "وأما القاسطون فكانوا لجهنّم حطبا".
فتعجّب أصحاب الخليفة العباسي من بلاغة البرمكية، وعلم كلامها الغزير، فلقد كانت تدعو عليه بدل الدعاء له، من دون أن يلاحظ فقهاء القوم، أما العجب الأكبر، فكان من حنكة هارون الرشيد، وذكائه في فهم مقصد المرأة ومطلبها، حيث كان حذراً جداً معها، وفهم بالضبط ما كانت ترمي إليه.
الدول لا تُحكم إلا بالرأي السديد النابع من فطنة الحكام، وبالقرار الحازم الذي يُدرك صاحبُهُ متى وكيف يجمع بين الرأفة والهيبة والصرامة، أما حين يُترك الأمر إلى المستشارين وأصحاب المصالح الشخصية، ويوكل الأمر إلى من ليس لديهم قرار، عندها تسقط الدولة في الفوضى، وكم من دول عربية تعيش حالياً في اللا قرار؛ لأنَّ قادتها لم يعملوا في سبيل مستقبلها؛ لأنهم يعيشون في بروجهم العاجية، ويتركون الأمر للمُستشارين.
آخر الأخبار